[كِتَابُ الْجِهَادِ] رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرَسُولِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» . وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (7412) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ، سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) مَعْنَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، الَّذِي إنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مَنْ يَكْفِي، أَثِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَإِنْ قَامَ بِهِ مَنْ يَكْفِي، سَقَطَ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ. فَالْخِطَابُ فِي ابْتِدَائِهِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، كَفَرْضِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَالْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] ثُمَّ قَالَ: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النِّفَاقِ ". وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدِينَ غَيْرُ آثِمِينَ مَعَ جِهَادِ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة: 122] وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ السَّرَايَا، وَيُقِيمُ هُوَ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُد. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ حِينَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ هَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ خُلِّفُوا، حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَنْفَرَهُ الْإِمَامُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ فِي الْجِهَادِ أَنْ يَنْهَضَ لِلْجِهَادِ قَوْمٌ يَكْفُونَ فِي قِتَالِهِمْ؛ إمَّا أَنْ يَكُونُوا جُنْدًا لَهُمْ دَوَاوِينُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونُوا قَدْ أَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ تَبَرُّعًا بِحَيْثُ إذَا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ حَصَلَتْ الْمَنَعَةُ بِهِمْ، وَيَكُونُ فِي الثُّغُورِ مَنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ عَنْهَا، وَيُبْعَثُ فِي كُلِّ سَنَةٍ جَيْشٌ يُغِيرُونَ عَلَى الْعَدُوِّ فِي بِلَادِهِمْ. [فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ] وَيَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ أَحَدُهَا، إذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ، وَتَقَابَلَ الصَّفَّانِ؛ حَرُمَ عَلَى مَنْ حَضَرَ الِانْصِرَافُ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] . وَقَوْلِهِ {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] الثَّانِي، إذَا نَزَلَ الْكُفَّارُ بِبَلَدٍ، تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِهِ قِتَالُهُمْ وَدَفْعُهُمْ. الثَّالِثِ، إذَا اسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا لَزِمَهُمْ النَّفِيرُ مَعَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] . الْآيَةَ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". [فَصْلٌ وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ] (7414) وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ؛ الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ الضَّرَرِ، وَوُجُودُ النَّفَقَةِ. فَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، فَهِيَ شُرُوطٌ لِوُجُوبِ سَائِرِ الْفُرُوعِ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مَأْمُونٍ فِي الْجِهَادِ، وَالْمَجْنُونَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجِهَادُ وَالصَّبِيَّ ضَعِيفُ الْبِنْيَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَتُشْتَرَطُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُبَايِعُ الْحُرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ» ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ، كَالْحَجِّ. وَأَمَّا الذُّكُورِيَّةُ فَتُشْتَرَطُ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فَقَالَ: جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ؛ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ» . وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ؛ لِضَعْفِهَا وَخَوَرِهَا، وَلِذَلِكَ لَا يُسْهَمُ لَهَا. وَلَا يَجِبُ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ. وَأَمَّا السَّلَامَةُ مِنْ الضَّرَرِ، فَمَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنْ الْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْمَرَضِ، وَهُوَ شَرْطٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] . وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْذَارَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْجِهَادِ؛ فَأَمَّا الْعَمَى فَمَعْرُوفٌ، وَأَمَّا الْعَرَجُ، فَالْمَانِعُ مِنْهُ هُوَ الْفَاحِشُ الَّذِي يَمْنَعُ الْمَشْيَ الْجَيِّدَ وَالرُّكُوبَ، كَالزَّمَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الْيَسِيرُ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شِدَّةُ الْعَدْوِ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْهُ، فَشَابَهَ الْأَعْوَرَ. وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ الْمَانِعُ هُوَ الشَّدِيدُ، فَأَمَّا الْيَسِيرُ مِنْهُ الَّذِي لَا يَمْنَعُ إمْكَانَ الْجِهَادِ، كَوَجَعِ الضِّرْسِ وَالصُّدَاعِ الْخَفِيفِ، فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجِهَادُ، فَهُوَ كَالْعَوَرِ. وَأَمَّا وُجُودُ النَّفَقَة، فَيُشْتَرَطُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] وَلِأَنَّ الْجِهَادَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِآلَةٍ، فَيُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، اُشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَنَفَقَةِ عَائِلَتِهِ فِي مُدَّةِ غِيبَتِهِ، وَسِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الرَّاحِلَةُ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ قَرِيبٌ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، اُعْتُبِرَ مَعَ ذَلِكَ الرَّاحِلَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] [فَصْلٌ أَقَلّ الْجِهَاد مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ.] (7415) وَأَقَلُّ مَا يُفْعَلُ مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَهِيَ بَدَلٌ عَنْ النُّصْرَةِ، فَكَذَلِكَ مُبْدَلُهَا وَهُوَ الْجِهَادُ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، إلَّا مِنْ عُذْرٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فِي عَدَدٍ أَوْ عُدَّةٍ، أَوْ يَكُونَ يَنْتَظِرُ الْمَدَدَ يَسْتَعِينُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إلَيْهِمْ فِيهَا مَانِعٌ أَوْ لَيْسَ فِيهَا عَلَفٌ أَوْ مَاءٌ، أَوْ يَعْلَمَ مِنْ عَدُوِّهِ حُسْنَ الرَّأْيِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَطْمَعَ فِي إسْلَامِهِمْ إنْ أَخَّرَ قِتَالَهُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَرَى الْمَصْلَحَةَ مَعَهُ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِهُدْنَةٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَالِحَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ، وَأَخَّرَ قِتَالَهُمْ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ، وَأَخَّرَ قِتَالَ قَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ بِغَيْرِ هُدْنَةٍ. وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْقِتَالِ فِي عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَوَجَبَ مِنْهُ مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ الْجِهَادُ] (7416) قَالَ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ) رَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا نَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ أَفْضَلَ مِنْ السَّبِيلِ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَذُكِرَ لَهُ أَمْرُ الْعَدُوِّ؟ فَجَعَلَ يَبْكِي، وَيَقُولُ: مَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَقَالَ عَنْهُ غَيْرُهُ: لَيْسَ يَعْدِلُ لِقَاءَ الْعَدُوِّ شَيْءٌ. وَمُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَاَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، هُمْ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَعَنْ حَرِيمِهِمْ، فَأَيُّ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْهُ، النَّاسُ آمِنُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ، قَدْ بَذَلُوا مُهَجَ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتِهَا. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ أَوْ أَيُّ الْأَعْمَالِ خَيْرٌ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ: الْجِهَادُ سَنَامُ الْعَمَلِ. قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ حَجَّةٍ مَبْرُورَةٍ، لَا رَفَثَ فِيهَا وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ.» وَلِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْمُهْجَةِ وَالْمَالِ، وَنَفْعُهُ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ، صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، قَوِيَّهُمْ وَضَعِيفَهُمْ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَغَيْرُهُ لَا يُسَاوِيه فِي نَفْعِهِ وَخَطَرِهِ، فَلَا يُسَاوِيه فِي فَضْلِهِ وَأَجْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ غزو الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ] قَالَ: (وَغَزْوُ الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَزْوَ فِي الْبَحْرِ مَشْرُوعٌ، وَفَضْلُهُ كَثِيرٌ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: فَقُلْت: مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عُبِدَ الْبَرِّ: أُمُّ حَرَامِ بِنْتُ مِلْحَانَ أُخْتُ أُمِّ سُلَيْمٍ خَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُ أُخْتٌ لَهُمَا ثَالِثَةٌ. وَلَمْ نَرَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، وَأَظُنُّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنَامُ فِي بَيْتِهَا، وَيَنْظُرُ إلَى شَعْرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ، الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ، لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ.» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «شَهِيدُ الْبَحْرِ مِثْلُ شَهِيدَيْ الْبَرِّ، وَالْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ، كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ، وَمَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ، كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، إلَّا شَهِيدَ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الدَّيْنَ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ وَالدَّيْنَ» وَلِأَنَّ الْبَحْرَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَمَشَقَّةً، فَإِنَّهُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَخَطَرِ الْغَرَقِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِرَارِ إلَّا مَعَ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ. (7418) فَصْلٌ: وَقِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَأْتِي مِنْ مَرْوَ لِغَزْوِ الرُّومِ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ خَلَّادٍ: «إنَّ ابْنَك لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ. قَالَتْ: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [مَسْأَلَةٌ الْغَزْو مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ] (7419) : (وَيُغْزَى مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ) يَعْنِي مَعَ كُلِّ إمَامٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ، عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ: أَنَا لَا أَغْزُو وَيَأْخُذُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ، إنَّمَا يُوَفَّرُ الْفَيْءُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ قَوْمُ سُوءٍ، هَؤُلَاءِ الْقَعَدَةُ، مُثَبِّطُونَ جُهَّالٌ، فَيُقَالُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَعَدُوا كَمَا قَعَدْتُمْ، مَنْ كَانَ يَغْزُو؟ أَلَيْسَ كَانَ قَدْ ذَهَبَ الْإِسْلَامُ؟ مَا كَانَتْ تَصْنَعُ الرُّومُ؟ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ؛ بَرًّا كَانَ، أَوْ فَاجِرًا.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ؛ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ» وَلِأَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ مَعَ الْفَاجِرِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الْجِهَادِ، وَظُهُورِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِئْصَالِهِمْ، وَظُهُورِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] (7420) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ الْقَائِدِ إذَا عُرِفَ بِالْهَزِيمَةِ وَتَضْيِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَغْزُو مَعَ مَنْ لَهُ شَفَقَةٌ وَحَيْطَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ كَانَ الْقَائِدُ يُعْرَفُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْغُلُولِ، يُغْزَى مَعَهُ، إنَّمَا ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (7421) فَصْلٌ: وَلَا يَسْتَصْحِبُ الْأَمِيرُ مَعَهُ مُخَذِّلًا، وَهُوَ الَّذِي يُثَبِّطُ النَّاسَ عَنْ الْغَزْوِ، وَيُزَهِّدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِ وَالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: الْحَرُّ أَوْ الْبُرْدُ شَدِيدٌ، وَالْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ، وَلَا تُؤْمَنُ هَزِيمَةُ هَذَا الْجَيْشِ. وَأَشْبَاهَ هَذَا، وَلَا مُرْجِفًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: هَلَكَتْ سَرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالَهُمْ مَدَدٌ، وَلَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ لَهُمْ قُوَّةٌ، وَمَدَدٌ، وَصَبْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ أَحَدٌ. وَنَحْوَ هَذَا، وَلَا مَنْ يُعِينُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجَسُّسِ لِلْكُفَّارِ، وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُكَاتَبَتِهِمْ بِأَخْبَارِهِمْ، وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، أَوْ إيوَاءِ جَوَاسِيسِهِمْ. وَلَا مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ؛ لِقَوْلِ اللَّهَ تَعَالَى {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] . وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَلْزَمُهُ مَنْعُهُمْ. وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ، لَمْ يُسْهِمْ لَهُ وَلَمْ يَرْضَخْ وَإِنْ أَظْهَرَ عَوْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَهُ نِفَاقًا، وَقَدْ ظَهَرَ دَلِيلُهُ، فَيَكُونُ مُجَرَّدَ ضَرَرٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مِمَّا غَنِمُوا شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ خُرُوجُهُ تَبَعًا، فَمَتْبُوعًا أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْمَضَرَّةُ عَلَى مَنْ صَحِبَهُ. [مَسْأَلَةٌ يقاتل كُلُّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ] (7422) : (وَيُقَاتِلُ كُلُّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ) . الْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَكْثَرُ ضَرَرًا، وَفِي قِتَالِهِ دَفْعُ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُقَابِلِ لَهُ، وَعَمَّنْ وَرَاءَهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْبَعِيدِ عَنْهُ، يُمَكِّنُهُ مِنْ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْهُ. قِيلَ لِأَحْمَدْ: يَحْكُونَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: تَرَكْت قِتَالَ الْعَدُوِّ عِنْدَك، وَجِئْت إلَى هَاهُنَا؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا الْقَوْلُ، يَتْرُكُ الْعَدُوَّ عِنْدَهُ، وَيَجِيءُ إلَى هَاهُنَا، أَفَيَكُونُ هَذَا، أَوَيَسْتَقِيمُ هَذَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] لَوْ أَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ كُلَّهُمْ عَمِلُوا عَلَى هَذَا، لَمْ يُجَاهِدْ التُّرْكَ أَحَدٌ. وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنَّمَا فَعَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا بِالْجِهَادِ، وَالْكِفَايَةُ حَاصِلَةٌ بِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُتَبَرِّعُ لَهُ تَرْكُ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ حَيْثُ شَاءَ، وَمَعَ مَنْ شَاءَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي الْبِدَايَةِ بِالْأَبْعَدِ؛ لِكَوْنِهِ أَخْوَفَ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ فِي الْبِدَايَةِ بِهِ لِقُرْبِهِ وَإِمْكَانِ الْفُرْصَةِ مِنْهُ، أَوْ لِكَوْنِ الْأَقْرَبِ مُهَادِنًا، أَوْ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِ مَانِعٌ، فَلَا بَأْسَ بِالْبِدَايَةِ بِالْأَبْعَدِ، لِكَوْنِهِ مَوْضِعَ حَاجَةٍ. [فَصْلٌ وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ] (7423) وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِتَرْتِيبِ قَوْمٍ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ يَكُفُّونَ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَيَأْمُرَ بِعَمَلِ حُصُونِهِمْ، وَحَفْرِ خَنَادِقِهِمْ، وَجَمِيعِ مَصَالِحِهِمْ، وَيُؤَمِّرَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ أَمِيرًا، يُقَلِّدُهُ أَمْرَ الْحُرُوبِ، وَتَدْبِيرَ الْجِهَادِ، وَيَكُونُ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ وَعَقْلٌ وَنَجْدَةٌ وَبَصَرٌ بِالْحَرْبِ وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ، وَيَكُونُ فِيهِ أَمَانَةٌ وَرِفْقٌ وَنُصْحٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنْ عَلَيْهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَيَغْزُو كُلَّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ مَنْ لَا يَفِي بِهِ مَنْ يَلِيهِ، فَيَنْقُلَ إلَيْهِمْ قَوْمًا مِنْ آخَرِينَ. وَيَتَقَدَّمَ إلَى مَنْ يُؤَمِّرُهُ أَنْ لَا يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَهْلَكَةٍ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِ مَطْمُورَةٍ يُخَافُ أَنْ يُقْتَلُوا تَحْتَهَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا كَفَّارَةٌ إذَا أُصِيبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِطَاعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. فَإِنْ عُدِمَ الْإِمَامُ، لَمْ يُؤَخَّرْ الْجِهَادُ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ. وَإِنْ حَصَلَتْ غَنِيمَةٌ، قَسَمَهَا أَهْلُهَا عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُؤَخَّرُ قِسْمَةُ الْإِمَاءِ حَتَّى يَظْهَرَ إمَامٌ احْتِيَاطًا لِلْفُرُوجِ. فَإِنْ بَعَثَ الْإِمَامُ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَلِلْجَيْشِ أَنْ يُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ، لَمَّا قُتِلَ أُمَرَاؤُهُمْ الَّذِينَ أَمَّرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضِيَ أَمْرَهُمْ، وَصَوَّبَ رَأْيَهُمْ، وَسَمَّى خَالِدًا يَوْمَئِذٍ: " سَيْفَ اللَّهِ ". (7424) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عُمَرُ: وَفِّرُوا الْأَظْفَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّهُ سِلَاحٌ. قَالَ أَحْمَدُ: يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحُلَّ الْحَبْلَ أَوْ الشَّيْءَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَظْفَارٌ لَمْ يَسْتَطِعْ. وَقَالَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نُحْفِيَ الْأَظْفَارَ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْقُوَّةَ الْأَظْفَارُ» . (7425) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يُشَيَّعُ الرَّجُلُ إذَا خَرَجَ، وَلَا يَتَلَقَّوْنَهُ، شَيَّعَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَمْ يَتَلَقَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ شَيَّعَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الشَّامِ، وَيَزِيدُ رَاكِبٌ وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمْشِي، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ أَنَا فَأَمْشِيَ مَعَك. قَالَ: لَا أَرْكَبُ وَلَا تَنْزِلُ، إنَّنِي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَشَيَّعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَبَا الْحَارِثِ الصَّائِغَ وَنَعْلَاهُ فِي يَدَيْهِ، وَذَهَبَ إلَى فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَرَادَ أَنْ تَغْبَرَّ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْخَثْعَمِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ لِلْخَثْعَمِيِّ صُحْبَةٌ، وَهُوَ قَدِيمٌ. [مَسْأَلَةٌ تَمَام الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا] (7426) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا) مَعْنَى الرِّبَاطِ الْإِقَامَةُ بِالثَّغْرِ، مُقَوِّيًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالثَّغْرُ: كُلُّ مَكَان يُخِيفُ أَهْلَهُ الْعَدُوُّ وَيُخِيفُهُمْ. وَأَصْلُ الرِّبَاطِ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، كُلٌّ يُعِدُّ لِصَاحِبِهِ، فَسُمِّيَ الْمُقَامُ بِالثَّغْرِ رِبَاطًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْلٌ. وَفَضْلُهُ عَظِيمٌ، وَأَجْرُهُ كَبِيرٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ يَعْدِلُ الْجِهَادَ عِنْدِي وَالرِّبَاطَ شَيْءٌ، وَالرِّبَاطُ دَفْعٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَعَنْ حَرِيمِهِمْ، وَقُوَّةٌ لِأَهْلِ الثَّغْرِ وَلِأَهْلِ الْغَزْوِ، فَالرِّبَاطُ أَصِلُ الْجِهَادِ وَفَرْعُهُ، وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ لِلْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِ الرِّبَاطِ أَخْبَارٌ؛ مِنْهَا مَا رَوَى سَلْمَانُ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: رِبَاطُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، فَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إنِّي كُنْت كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَاهِيَةَ تَفَرُّقِكُمْ عَنِّي، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ، لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ مِنْكُمْ لِنَفْسِهِ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُمَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَإِنَّ الرِّبَاطَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، فَكُلُّ مُدَّةٍ أَقَامَهَا بِنِيَّةِ الرِّبَاطِ، فَهُوَ رِبَاطٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رِبَاطُ يَوْمٍ وَرِبَاطُ لَيْلَةٍ.» قَالَ أَحْمَدُ: يَوْمٌ رِبَاطٌ، وَلَيْلَةٌ رِبَاطٌ، وَسَاعَةٌ رِبَاطٌ. وَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَمَنْ رَابَطَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُتِبَ بِهِ أَجْرُ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَمَنْ زَادَ، زَادَهُ اللَّهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ، مَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الرِّبَاطَ. وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، فِي " كِتَابِ الثَّوَابِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا» . وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ الرِّبَاطِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ رَابَطْت؟ قَالَ: ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَ: عَزَمْت عَلَيْك إلَّا رَجَعْت حَتَّى تُتِمَّهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَإِنْ رَابَطَ أَكْثَرَ، فَلَهُ أَجْرُهُ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَمَنْ زَادَ، زَادَهُ اللَّهُ. [فَصْلٌ وَأَفْضَلُ الرِّبَاطِ الْمُقَامُ بِأَشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا] (7427) : وَأَفْضَلُ الرِّبَاطِ الْمُقَامُ بِأَشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا؛ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ، وَمُقَامُهُ بِهِ أَنْفَعُ. قَالَ أَحْمَدُ: أَفْضَلُ الرِّبَاطِ أَشَدُّهُمْ كَلَبًا. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَيْنَ أَحَبُّ إلَيْك أَنْ يَنْزِلَ الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ؟ قَالَ: كُلُّ مَدِينَةٍ مَعْقِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ دِمَشْقَ. وَقَالَ: أَرْضُ الشَّامِ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَدِمَشْقُ مَوْضِعٌ يَجْتَمِعُ إلَيْهِ النَّاسُ إذَا غَلَبَتْ الرُّومُ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ: " إنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ ". وَنَحْوَ هَذَا؟ قَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا جَاءَ فِيهِ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا فِي الثُّغُورِ. فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَرْضُ الْقُدْسِ أَيْنَ هِيَ؟ " وَلَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ " هُمْ أَهْلُ الشَّامِ. فَفَسَّرَ أَحْمَدُ الْغَرْبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالشَّامِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّامَ يُسَمَّى مَغْرِبًا، لِأَنَّهُ مَغْرِبٌ لِلْعِرَاقِ، كَمَا يُسَمَّى الْعِرَاقُ مَشْرِقًا، وَلِهَذَا قِيلَ: وَلِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُصَرَّحًا بِهِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ بِالشَّامِ.» وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: " وَهُمْ بِالشَّامِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فِي " صَحِيحِهِ ". وَفِي خَبَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ بِدِمَشْقَ ظَاهِرِينَ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فِي " التَّارِيخِ ". وَقَدْ رُوِيَتْ فِي الشَّامِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الْأَزْدِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَتُجَنَّدُونَ أَجْنَادًا؛ جُنْدًا بِالشَّامِ، وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ، وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ فَقُلْت: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: عَلَيْك بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَمَنْ أَبَى، فَلْيَلْحَقْ بِالْيَمَنِ، وَيُسْقَ مِنْ غُدُرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ، وَكَانَ أَبُو إدْرِيسَ إذَا رَوَى هَذَا الْخَبَرَ قَالَ: وَمَنْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهِ، فَلَا ضَيْعَةَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: أَتَيْت الْمَدِينَةَ، فَسَأَلْت: مَنْ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ؟ فَقِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَأَبْدَأَنَّ بِهَذَا قَبْلَهُمْ. فَدَخَلْت إلَيْهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، وَقَالَ: مِنْ أَيِّ إخْوَانِنَا أَنْتَ؟ قُلْت: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. قَالَ: مِنْ أَيِّهِمْ؟ قُلْت: مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُ مَعَاقِلَ؛ فَمَعْقِلُهُمْ فِي الْمَلْحَمَةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَكُونُ بِعُمْقِ أَنْطَاكِيَةَ دِمَشْقُ، وَمَعْقِلُهُمْ مِنْ الدَّجَّالِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَمَعْقِلُهُمْ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ طُورُ سَيْنَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، فِي " الْحِلْيَةِ "، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ، إلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. قَالَ: عَلَيْك بِجَبَلِ الْخَمْرِ. قَالَ: وَمَا جَبَلُ الْخَمْرِ؟ قَالَ: أَرْضُ الْمَحْشَرِ.» وَبِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: «بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: تِلْكَ مَقْبَرَةٌ تَكُونُ بِعَسْقَلَانَ.» فَكَانَ عَطَاءٌ يُرَابِطُ بِهَا كُلَّ عَامٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى مَاتَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، فِي " كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى مَقْبَرَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَقْبَرَةٍ هِيَ؟ قَالَ: مَقْبَرَةٌ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، يُقَالُ لَهَا: عَسْقَلَانُ، يَفْتَتِحُهَا نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، يَبْعَثُ اللَّهُ مِنْهَا سَبْعِينَ أَلْفَ شَهِيدٍ، فَيَشْفَعُ الرَّجُلُ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَلِكُلٍّ عَرُوسٌ، وَعَرُوسُ الْجَنَّةِ عَسْقَلَانُ» . وَبِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَغْزُوَ. فَقَالَ: عَلَيْك بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ الْزَمْ مِنْ الشَّامِ عَسْقَلَانَ، فَإِنَّهَا إذَا دَارَتْ الرَّحَى فِي أُمَّتِي، كَانَ أَهْلُهَا فِي رَاحَةٍ وَعَافِيَةٍ.» [فَصْلٌ نَقْلُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ إلَى الثُّغُورِ الْمَخُوفَةِ] (7428) : وَمَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَرَاهَةُ نَقْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ إلَى الثُّغُورِ الْمَخُوفَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا تُنْزِلُوا الْمُسْلِمِينَ ضِفَّةَ الْبَحْرِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ لَا يُؤْمَنُ ظَفَرُ الْعَدُوِّ بِهَا، وَبِمَنْ فِيهَا، وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَتَخَافُ عَلَى الْمُنْتَقِلِ بِعِيَالِهِ إلَى الثَّغْرِ الْإِثْمَ؟ قَالَ: كَيْفَ لَا أَخَافُ الْإِثْمَ، وَهُوَ يُعَرِّضُ ذُرِّيَّتَهُ لِلْمُشْرِكِينَ؟ وَقَالَ: كُنْت آمُرُ بِالتَّحَوُّلِ بِالْأَهْلِ وَالْعِيَالِ إلَى الشَّامِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَأَنَا أَنْهَى عَنْهُ الْآنَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ اقْتَرَبَ. وَقَالَ: لَا بُدَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ يَوْمٍ. قِيلَ: فَذَلِكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. قَالَ: فَهَذَا آخِرُ الزَّمَانِ. قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتَهنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا. قَالَ: هَذَا لِلْوَاحِدَةِ، لَيْسَ الذُّرِّيَّةَ. وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الثَّغْرِ، لَا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ الِانْتِقَالُ بِأَهْلِهِمْ إلَى ثَغْرٍ مَخُوفٍ، فَأَمَّا أَهْلُ الثَّغْرِ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ السُّكْنَى بِأَهْلِهِمْ، لَوْلَا ذَلِكَ لَخَرِبَتْ الثُّغُورُ وَتَعَطَّلَتْ. وَخَصَّ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ اخْتَارَ سُكْنَى دِمَشْقَ وَنَحْوِهَا، مَعَ كَوْنِهَا ثَغْرًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ سَلَامَتُهَا، وَسَلَامَةُ أَهْلِهَا. [فَصْلٌ لِأَهْلِ الثَّغْرِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ] (7429) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الثَّغْرِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ لِصَلَوَاتِهِمْ كُلِّهَا، لِيَكُونَ أَجْمَعَ لَهُمْ، وَإِذَا حَضَرَ النَّفِيرُ صَادَفَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَبْلُغُ الْخَبَرُ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ جَاءَ خَبَرٌ يَحْتَاجُونَ إلَى سَمَاعِهِ، أَوْ أَمْرٌ يُرَادُ إعْلَامُهُمْ بِهِ، يَعْلَمُونَهُ، وَيَرَاهُمْ عَيْنُ الْكُفَّارِ، فَيَعْلَمُ كَثْرَتَهُمْ فَيُخَوَّفُ بِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ يَرَى الْجَاسُوسُ قِلَّتَهُمْ. قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ الْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بِالثَّغْرِ: لَوْ أَنَّ لِي عَلَيْهَا وِلَايَةً، لَسَمَّرْت أَبْوَابَهَا - وَلَمْ يَقُلْ: لَخَرَّبْتهَا - حَتَّى تَكُونَ صَلَاتُهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، حَتَّى إذَا جَاءَ النَّفِيرُ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ، لَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ إذَا كَانُوا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. [فَصْلٌ الْحَرَسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (7430) وَفِي الْحَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ حَارِسَ الْحَرَسِ» . وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، «أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً، قَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟» قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَارْكَبْ ". فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: " اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ، حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ، وَلَا أَغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِك اللَّيْلَةَ ". فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُصَلَّاهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: " هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ اللَّيْلَةَ؟ قَالُوا: لَا. فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَبْشِرُوا، قَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ ". فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي انْطَلَقْت حَتَّى كُنْت فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَصْبَحْت اطَّلَعْت الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْت، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ نَزَلْت اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: لَا، إلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَوْجَبْت، فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ، قِيَامِ لَيْلِهَا، وَصِيَامِ نَهَارِهَا» . رَوَاهُ ابْنُ سَنْجَرٍ. [مَسْأَلَةٌ إذَا كَانَ الْمُتَطَوِّع لِلْجِهَادِ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ] (7431) : (وَإِذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ، لَمْ يُجَاهِدْ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِمَا) رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَاهِدُ؟ فَقَالَ: أَلَك أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَالَ: جِئْت أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ. قَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا.» وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَك بِالْيَمَنِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَبَوَايَ. قَالَ: أَذِنَّا لَك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْجِعْ، فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا.» رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ يُقَدَّمُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، فَلَا إذْنَ لَهُمَا. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَغْزُو إلَّا بِإِذْنِهِمَا؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ. وَلَنَا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يُجَاهِدُونَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ كَافِرَانِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عَتَبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَبُوهُ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، قَتَلَ أَبَاهُ فِي الْجِهَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَجِدُ قَوْمًا} [المجادلة: 22] . الْآيَةَ، وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ مُخَصَّصٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ فَأَمَّا إنْ كَانَ أَبَوَاهُ رَقِيقَيْنِ، فَعُمُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُمَا أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ، فَأَشْبَهَا الْحُرَّيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ إذْنُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا. وَإِنْ كَانَا مَجْنُونَيْنِ فَلَا إذْنَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِئْذَانُهُمَا. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِجَابَةُ إذَا خُوطِبَ بِالْجِهَادِ] (7432) قَالَ وَإِذَا خُوطِبَ بِالْجِهَادِ فَلَا إذْنَ لَهُمَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ الْفَرَائِضِ، لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِهَا. يَعْنِي إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ. لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ، وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَجَبَ مِثْلُ الْحَجِّ، وَالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعِ، وَالسَّفَرِ، لِلْعِلْمِ الْوَاجِبِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا طَاعَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْجُمَعِ وَالْحَجِّ وَالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْأَبَوَيْنِ فِيهَا، كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَلَمْ يَشْتَرِطْ إذْنَ الْوَالِدَيْنِ. [فَصْلٌ الْخُرُوجُ إلَى الْجِهَادِ بِإِذْنِ الْوَالِدَيْنِ] (7433) وَإِنْ خَرَجَ فِي جِهَادِ تَطَوُّعٍ بِإِذْنِهِمَا، فَمَنَعَاهُ مِنْهُ بَعْدَ سَيْرِهِ وَقَبْلَ وُجُوبِهِ، فَعَلَيْهِ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ فِي الِابْتِدَاءِ مَنَعَ، فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ مَنَعَ، كَسَائِرِ الْمَوَانِعِ، إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الرُّجُوعِ، أَوْ يَحْدُثَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِلَّا مَضَى مَعَ الْجَيْشِ، فَإِذَا حَضَرَ الصَّفَّ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِحُضُورِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا إذْنٌ. وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمَا عَنْ الْإِذْنِ بَعْدَ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ رُجُوعُهُمَا شَيْئًا. وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ، فَأَسْلَمَا وَمَنَعَاهُ، كَانَ ذَلِكَ كَمَنْعِهِمَا بَعْدَ إذْنِهِمَا، سَوَاءٌ. وَحُكْمُ الْغَرِيمِ يَأْذَنُ فِي الْجِهَادِ ثُمَّ يَمْنَعُ مِنْهُ، حُكْمُ الْوَالِدِ، عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ. فَأَمَّا إنْ حَدَثَ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ، فَلَهُ الِانْصِرَافُ، سَوَاءٌ الْتَقَى الزَّحْفَانِ، أَوْ لَمْ يَلْتَقِيَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِتَالُ، وَلَا فَائِدَةَ فِي مُقَامِهِ. [فَصْلٌ أَذِنَ لَهُ وَالِدَاهُ فِي الْغَزْوِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ لَا يُقَاتِلُ] (7434) وَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَالِدَاهُ فِي الْغَزْوِ، وَشَرَطَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ، فَحَضَرَ الْقِتَالَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ شَرْطُهُمَا. كَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِأَنَّهُ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا فِي تَرْكِهِ طَاعَةٌ. وَلَوْ خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، فَحَضَرَ الْقِتَالَ ثُمَّ بَدَا لَهُ الرُّجُوعُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ مِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ هَلْ يَجُوز لَهُ الْخُرُوج للغزو] (7435) فَصْلٌ وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْغَزْوِ إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ وَفَاءً، أَوْ يُقِيمَ بِهِ كَفِيلًا، أَوْ يُوَثِّقَهُ بِرَهْنٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي الْغَزْوِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَا حَبْسُهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْغَزْوِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ. وَلَنَا أَنَّ الْجِهَادَ تُقْصَدُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ الَّتِي تَفُوتُ بِهَا النَّفْسُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ، بِفَوَاتِهَا، وَقَدْ جَاءَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا إذْنَ لِغَرِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، كَسَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِمَظَانِّ الْقَتْلِ؛ مِنْ الْمُبَارَزَةِ، وَالْوُقُوفِ فِي أَوَّلِ الْمُقَاتِلَةِ، لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِتَفْوِيتِ الْحَقِّ. وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً، أَوْ أَقَامَ كَفِيلًا، فَلَهُ الْغَزْوُ بِغَيْرِ إذْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَنْ تَرَكَ وَفَاءً، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَرَامٍ أَبَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَرَجَ إلَى أُحُدٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، فَاسْتُشْهِدَ، وَقَضَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَذُمَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُ، بَلْ مَدَحَهُ، وَقَالَ «مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ. وَقَالَ لِابْنِهِ جَابِرٌ أَشَعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاك، وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا» . [مَسْأَلَةٌ يُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ وَلَا يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ] (7436) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ، وَلَا يُدْعَوْنَ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ وَيُدْعَى عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَارَبُوا أَمَّا قَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس: لَا يُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ. فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ انْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَّا نَادِرٌ بَعِيدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُدْعَى عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَارَبُوا. فَلَيْسَ بِعَامٍّ، فَإِنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ لَا يُدْعَوْنَ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، دُعِيَ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، دُعُوا قَبْلَ الْقِتَالِ. قَالَ أَحْمَدُ إنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْ وَانْتَشَرَتْ، وَلَكِنْ إنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ خَلْفَ الرُّومِ وَخَلْفَ التُّرْكِ، عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّتِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: إذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتَهنَّ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ؛ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَمُسْلِمٌ،. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ قَبْلَ انْتِشَارِ الدَّعْوَةِ، وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَقَدْ انْتَشَرَتْ الدَّعْوَةُ، فَاسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقِتَالِ، قَالَ أَحْمَدُ كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ، حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَعَلَا الْإِسْلَامُ، وَلَا أَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُدْعَى، قَدْ بَلَغَتْ الدَّعْوَةُ كُلَّ أَحَدٍ، وَالرُّومُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَعَلِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ دَعَا فَلَا بَأْسَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ آمِنُونَ، وَإِبِلُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ؛ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ عَنْ الدِّيَارِ مِنْ دِيَارِ الْمُشْرِكِينَ، يَبِيتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، فَقَالَ هُمْ مِنْهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: «أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ، فَغَزَوْنَا نَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَبَيَّتْنَاهُمْ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَمْرُ بِالدَّعْوَةِ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّرَ عَلِيًّا، حِينَ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَبَعَثَهُ إلَى قِتَالِهِمْ، أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَهُمْ مِمَّنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَدَعَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ حِينَ تَنَبَّأَ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَدَعَا سَلْمَانُ أَهْلَ فَارِسَ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مَجُوسًا، دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا، دَعَاهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِمْ، دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا، قَاتَلَهُمْ، وَمَنْ قُتِلَ قَبْلَ الدُّعَاءِ لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ لَهُ وَلَا أَمَانَ، فَلَمْ يُضْمَنْ، كَنِسَاءِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَصِبْيَانِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ يُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ] (7437) مَسْأَلَةٌ وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَيُقَاتَلُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ قِسْمٌ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ اتَّخَذَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كِتَابًا، كَالسَّامِرَةِ وَالْفِرِنْجِ وَنَحْوِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَيُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ إذَا بَذَلُوهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَهُمْ الْمَجُوسُ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَإِقْرَارِهِمْ بِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ، وَسَائِرِ الْكُفَّارِ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ سِوَى الْإِسْلَامِ. هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدُ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَيُقَرُّونَ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، كَالْمَجُوسِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، إلَّا كُفَّارَ قُرَيْشٍ؛ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الَّذِي فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذِهِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَلِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، فَأَشْبَهُوا الْمَجُوسَ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَقَوْلُ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . خَصَّ مِنْهُمَا أَهْلَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَالْمَجُوسَ بِقَوْلِهِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . فَمَنْ عَدَاهُمَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، تَوَقَّفُوا فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَأْخُذْ عُمَرُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، حَتَّى رَوَى لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْجِزْيَةَ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا تَوَقَّفُوا فِي مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ، فَفِي مِنْ لَا شُبْهَةَ لَهُ أَوْلَى، ثُمَّ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ لِلْخَبَرِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، إذْ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، لَمْ يَخْتَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِإِضَافَتِهَا إلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ تَغْلُظُ كُفْرُهُمْ لِكُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ وَجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ، فَلَمْ يُقَرُّوا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، كَقُرَيْشٍ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ تَغْلِيظَ الْكُفْرِ لَهُ أَثَرٌ فِي تَحَتُّمِ الْقَتْلِ، وَكَوْنِهِ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، بِدَلِيلِ الْمُرْتَدِّ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَإِنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَالشُّبْهَةُ تَقُومُ مُقَامَ الْحَقِيقَةِ فِيمَا يُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ، فَحَرُمَتْ دِمَاؤُهُمْ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِلُّ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَمَّا اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ دِمَائِهِمْ، اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، لِيَثْبُتَ التَّحْرِيمُ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، تَغْلِيبًا لَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِالِاسْتِرْقَاقِ. [مَسْأَلَةٌ النَّفَرُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ] (7438) مَسْأَلَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ إذَا جَاءَ الْعَدُوُّ، أَنْ يَنْفِرُوا؛ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ، وَالْمُكْثِرُ، وَلَا يَخْرُجُوا إلَى الْعَدُوِّ إلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، إلَّا أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوٌّ غَالِبٌ يَخَافُونَ كَلَبَهُ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوهُ قَوْلُهُ: الْمُقِلُّ مِنْهُمْ وَالْمُكْثِرُ. يَعْنِي بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، أَيْ مُقِلٌّ مِنْ الْمَالِ وَمُكْثِرٌ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّفِيرَ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ، مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، حِينَ الْحَاجَةِ إلَى نَفِيرِهِمْ؛ لِمَجِيءِ الْعَدُوِّ إلَيْهِمْ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ، إلَّا مَنْ يُحْتَاجُ إلَى تَخَلُّفِهِ لِحِفْظِ الْمَكَانِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَمَنْ يَمْنَعُهُ الْأَمِيرُ مِنْ الْخُرُوجِ، أَوْ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ أَوْ الْقِتَالِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ أَرَادُوا الرُّجُوعَ إلَى مَنَازِلِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] . وَلِأَنَّهُمْ إذَا جَاءَ الْعَدُوُّ، صَارَ الْجِهَادُ عَلَيْهِمْ فَرْضَ عَيْنٍ فَوَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَرْبِ مَوْكُولٌ إلَيْهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقِلَّتِهِمْ، وَمَكَامِنِ الْعَدُوِّ وَكَيْدِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ إلَى رَأْيِهِ، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ لِمُفَاجَأَةِ عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، فَلَا يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَتَعَيَّنُ فِي قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ إلَيْهِ، لِتَعَيُّنِ الْفَسَادِ فِي تَرْكِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَغَارَ الْكُفَّارُ عَلَى لِقَاحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَادَفَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ، تَبِعَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ، مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، فَمَدَحَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: خَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. وَأَعْطَاهُ سَهْمَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ. [فَصْلٌ الْإِمَامُ إذَا غَضِبَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ اُخْرُجْ عَلَيْك أَنْ لَا تَصْحَبَنِي] (7439) فَصْلٌ وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْإِمَامِ إذَا غَضِبَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: اُخْرُجْ، عَلَيْك أَنْ لَا تَصْحَبَنِي. فَنَادَى بِالنَّفِيرِ، يَكُونُ إذْنًا لَهُ؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا قَصَدَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَا يَصْحَبُهُ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ. قَالَ: وَإِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَالنَّفِيرِ، فَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ بِالْبُعْدِ، إنَّمَا جَاءَهُمْ طَلِيعَةٌ لِلْعَدُوِّ، صَلَّوْا وَنَفَرُوا إلَيْهِمْ، وَإِذَا اسْتَغَاثُوا بِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ الْعَدُوُّ، أَغَاثُوا وَنَصَرُوا وَصَلَّوْا عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ وَيُومِئُونَ، وَالْغِيَاثُ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ وَهُوَ يَسِيرُ أَفْضَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا سَمِعَ النَّفِيرَ، وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، يُصَلِّي، وَيُخَفِّفُ، وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيَقْرَأُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ. وَقَدْ نَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جُنُبٌ - يَعْنِي غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ - قَالَ: وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ فِيهَا، وَإِذَا جَاءَ النَّفِيرُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَا تَرَى أَنْ يَنْفِرُوا؟ قَالَ: وَلَا تَنْفِرُ الْخَيْلُ إلَّا عَلَى حَقِيقَةٍ، وَلَا تَنْفِرُ عَلَى الْغُلَامِ إذَا أَبَقَ إذَا أَنْفَرُوهُمْ، فَلَا يَكُونُ هَلَاكُ النَّاسِ بِسَبَبِ غُلَامٍ، وَإِذَا نَادَى الْإِمَامُ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. لِأَمْرٍ يَحْدُثُ، فَيُشَاوِرُ فِيهِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. [مَسْأَلَةٌ دُخُولُ النِّسَاءِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ] (7440) مَسْأَلَةٌ وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النِّسَاءِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ إلَّا الطَّاعِنَةُ فِي السِّنِّ، لِسَقْيِ الْمَاءِ، وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ دُخُولُ النِّسَاءِ الشَّوَابِّ أَرْضَ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَقَلَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِنَّ فِيهِ، لِاسْتِيلَاءِ الْخَوَرِ وَالْجُبْنِ عَلَيْهِنَّ. وَلَا يُؤْمَنُ ظَفَرُ الْعَدُوِّ بِهِنَّ، فَيَسْتَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْهُنَّ، وَقَدْ رَوَى حَشْرَجُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ، أَنَّهَا «خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَادِسَةَ سِتِّ نِسْوَةٍ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ إلَيْنَا، فَجِئْنَا، فَرَأَيْنَا مِنْهُ الْغَضَبَ، فَقَالَ: مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعْرَ، وَنُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى، وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ، وَنَسْقِي السَّوِيقَ. فَقَالَ: قُمْنَ. حَتَّى إذَا فَتَحَ اللَّهُ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا، كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ، فَقُلْت لَهَا: يَا جَدَّةُ، مَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: تَمْرًا» . . قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ كَانُوا يَغْزُونَ مَعَهُمْ بِالنِّسَاءِ فِي الصَّوَائِفِ؟ قَالَ: لَا إلَّا بِالْجَوَارِي. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الطَّاعِنَةُ فِي السِّنِّ، وَهِيَ الْكَبِيرَةُ، إذَا كَانَ فِيهَا نَفْعٌ، مِثْلَ سَقْيِ الْمَاءِ، وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَنَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، تَغْزُوَانِ مَعَ النَّبِيِّ، فَأَمَّا نَسِيبَةُ فَكَانَتْ تُقَاتِلُ، وَقُطِعَتْ يَدُهَا يَوْمَ الْيَمَامَةِ. وَقَالَتْ الرُّبَيِّعُ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ لِسَقْيِ الْمَاءِ، وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى.» وَقَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مَعَهَا مِنْ الْأَنْصَارِ، يَسْقِينَ الْمَاءَ، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْرِجُ مَعَهُ مَنْ تَقَعُ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ مِنْ نِسَائِهِ، وَخَرَجَ بِعَائِشَةَ مَرَّاتٍ. قِيلَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، يَأْخُذُهَا لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَيَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْأَمِيرِ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلَا يُرَخَّصُ لِسَائِرِ الرَّعِيَّةِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مَا ذَكَرْنَا. . [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَرْفُقَ بِجَيْشِهِ فِي الْحَرْبِ] (7441) فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَرْفُقَ بِجَيْشِهِ، وَيَسِيرُ بِهِمْ سَيْرَ أَضْعَفِهِمْ، لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْجِدِّ فِي السَّيْرِ جَازَ لَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَدَّ فِي السَّيْرِ جَدًّا شَدِيدًا، حِينَ بَلَغَهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. لِيَشْتَغِلَ النَّاسُ عَنْ الْخَوْضِ فِيهِ» . وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ جَدَّ فِي السَّيْرِ حِينَ اسْتَصْرَخَ عَلَى صَفِيَّةَ امْرَأَتِهِ. وَلَا يَمِيلُ الْأَمِيرُ مَعَ مُوَافِقِيهِ فِي الْمَذْهَبِ وَالنَّسَبِ عَلَى مُخَالِفِيهِ فِيهِمَا لِئَلَّا يَكْسِرَ قُلُوبَهُمْ، فَيَخْذُلُونَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِمْ. وَيُكْثِرُ الْمُشَاوَرَةَ لِذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . وَيَتَخَيَّرُ الْمَنَازِلَ لِأَصْحَابِهِ، وَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ رَجُلًا قَدْ أُصِيبَتْ فَرَسُهُ، وَمَعَ الْآخَرِ فَضْلٌ، اُسْتُحِبَّ لَهُ حَمْلُهُ، وَلَمْ يَجِبْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنْ خَافَ تَلَفَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ فَضْلِ مَرْكُوبِهِ؛ لِيُحْيِيَ بِهِ صَاحِبَهُ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ فَضْلِ طَعَامِهِ لِلْمُضْطَرِّ إلَيْهِ، وَتَخْلِيصُهُ مِنْ عَدُوِّهِ. [فَصْلٌ الرَّجُلَيْنِ يَشْتَرِيَانِ الْفَرَسَ بَيْنَهُمَا يَغْزُوَانِ عَلَيْهِ] (7442) فَصْلٌ وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَشْتَرِيَانِ الْفَرَسَ بَيْنَهُمَا، يَغْزُوَانِ عَلَيْهِ، يَرْكَبُ هَذَا عَقَبَةً وَهَذَا عَقَبَةً: مَا سَمِعْت فِيهِ بِشَيْءٍ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. قِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك؟ يَعْتَزِلُ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ أَوْ يُرَافِقُ؟ قَالَ: يُرَافِقُ، هَذَا أَرْفَقُ، يَتَعَاوَنُونَ، وَإِذَا كُنْت وَحْدَك لَمْ يُمْكِنْك الطَّبْخُ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ بِالنَّهَدِ، قَدْ تَنَاهَدَ الصَّالِحُونَ، وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا سَافَرَ أَلْقَى مَعَهُمْ، وَيَزِيدُ أَيْضًا بَعْدَمَا يُلْقِي. وَمَعْنَى النَّهَدِ، أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّفْقَةِ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ، يَدْفَعُونَهُ إلَى رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَدْفَعُ إلَى وَكِيلِهِمْ مِثْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَأْتِي سِرًّا بِمِثْلِ ذَلِكَ، يَدْفَعُهُ إلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَرَى أَنْ يَغْزُوَ وَمَعَهُ مُصْحَفٌ. يَعْنِي لَا يَدْخُلُ بِهِ أَرْضَ الْعَدُوِّ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ [مَسْأَلَةٌ اسْتِئْذَانُ الْأَمِيرِ فِي الْغَزْوِ فِي كُلِّ شَيْءٍ] (7443) مَسْأَلَةٌ وَإِذَا غَزَا الْأَمِيرُ بِالنَّاسِ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّفَ، وَلَا يَحْتَطِبَ، وَلَا يُبَارِزَ عِلْجًا، وَلَا يَخْرُجَ مِنْ الْعَسْكَرِ، وَلَا يُحْدِثَ حَدَثًا، إلَّا بِإِذْنِهِ يَعْنِي لَا يَخْرُجُ مِنْ الْعَسْكَرِ لِتَعَلُّفٍ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَلَفِ لِلدَّوَابِّ، وَلَا لِاحْتِطَابٍ، وَلَا غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] . وَلِأَنَّ الْأَمِيرَ أَعْرَفُ بِحَالِ النَّاسِ، وَحَالِ الْعَدُوِّ، وَمَكَامِنِهِمْ، وَمَوَاضِعِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ. فَإِذَا خَرَجَ خَارِجٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُصَادِفَ كَمِينًا لِلْعَدُوِّ، فَيَأْخُذُوهُ، أَوْ طَلِيعَةً لَهُمْ، أَوْ يَرْحَلَ الْأَمِيرُ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتْرُكَهُ فَيَهْلِكَ. وَإِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إلَّا إلَى مَكَان آمِنٍ، وَرُبَّمَا يَبْعَثُ مَعَهُمْ مِنْ الْجَيْشِ مَنْ يَحْرُسُهُمْ وَيَطَّلِعُ لَهُمْ. وَأَمَّا الْمُبَارَزَةُ، فَتَجُوزُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَكَرِهَهَا. وَلَنَا، أَنَّ حَمْزَةَ، وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، بِإِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَبَارَزَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَقَتَلَهُ. وَبَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقِيلَ بَارَزَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَبَارَزَهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ فَاسْتُشْهِدَ. وَبَارَزَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ مَرْزُبَانَ الزَّأْرَةِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ فَبَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَتَلْت تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَئِيسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُبَارَزَةً، سِوَى مَنْ شَارَكْت فِيهِ. وَبَارَزَ شِبْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ أَسْوَارًا فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَنَفَلَهُ إيَّاهُ سَعْدٌ وَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَارِزُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُقْسِمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] . نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ، بَارَزُوا عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةُ بَارَزْت رَجُلًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَتَلْته. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَأْذَنَ الْأَمِيرُ فِي الْمُبَارَزَةِ إذَا أَمْكَنَ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَرَخَّصَ فِيهَا مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِخَبَرِ أَبِي قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُمْ الْمُبَارَزَةَ، لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ اسْتِئْذَانٌ. وَلَنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَعْلَمُ بِفُرْسَانِهِ وَفُرْسَانِ الْعَدُوِّ، وَمَتَى بَرَزَ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْ لَا يُطِيقُهُ، كَانَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، فَيَكْسِرُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، لِيَخْتَارَ لِلْمُبَارَزَةِ مَنْ يَرْضَاهُ لَهَا، فَيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الظَّفَرِ وَجَبْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَحْتُمْ لَهُ أَنْ يَنْغَمِسَ فِي الْكُفَّارِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِقَتْلِهِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ مُبَارِزًا تَعَلَّقَتْ قُلُوبُ الْجَيْشِ بِهِ، وَارْتَقَبُوا ظَفَرَهُ، فَإِنْ ظَفِرَ جَبَرَ قُلُوبَهُمْ، وَسَرَّهُمْ، وَكَسَرَ قُلُوبَ الْكُفَّارِ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ بِالْعَكْسِ، وَالْمُنْغَمِسُ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ، لَا يَتَرَقَّبُ مِنْهُ ظَفَرٌ وَلَا مُقَاوَمَةٌ. فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا مُبَارَزَةُ أَبِي قَتَادَةُ فَغَيْرُ لَازِمَةٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، رَأَى رَجُلًا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا، فَضَرَبَهُ أَبُو قَتَادَةُ، فَضَمَّهُ ضَمَّةً كَادَ يَقْتُلُهُ. وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُبَارَزَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، بَلْ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا أَنْ يَبْرُزَ رَجُلٌ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَبْلَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، يَدْعُو إلَى الْمُبَارَزَةِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ لَهُ إذْنُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ عَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ تَمْتَدُّ إلَيْهِمَا، وَقُلُوبَ الْفَرِيقَيْنِ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَأَيُّهُمَا غَلَبَ سَرَّ أَصْحَابَهُ، وَكَسَرَ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُبَارَزَةُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْتَحَبَّةٍ، وَمُبَاحَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ، أَمَّا الْمُسْتَحَبَّةُ؛ فَإِذَا خَرَجَ عِلْجٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، اُسْتُحِبَّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ مُبَارَزَتُهُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ. لِأَنَّ فِيهِ رَدًّا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِمْ. وَالْمُبَاحُ؛ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ بِطَلَبِهَا، فَيُبَاحُ وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُغْلَبَ، فَيَكْسِرَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُجَاعًا وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، أُبِيحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ غَالِبٌ، وَالْمَكْرُوهُ أَنْ يَبْرُزَ الضَّعِيفُ الْمِنَّةِ، الَّذِي لَا يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ، فَتُكْرَهُ لَهُ الْمُبَارَزَةُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِ ظَاهِرًا. (7444) فَصْلٌ: إذَا خَرَجَ كَافِرٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، جَازَ رَمْيُهُ وَقَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ لَا عَهْدَ لَهُ، وَلَا أَمَانَ لَهُ، فَأُبِيحَ قَتْلُهُ كَغَيْرِهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ خَرَجَ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ لَا يُعْرَضُ لَهُ، فَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الشَّرْطِ. وَإِذَا خَرَجَ إلَيْهِ أَحَدٌ يُبَارِزُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَيْهِ سِوَاهُ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، فَإِنْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُ تَارِكًا لِلْقِتَالِ، أَوْ مُثْخَنًا بِجِرَاحَتِهِ، جَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ قِتَالُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا صَارَ إلَى هَذِهِ الْحَالِ فَقَدْ انْقَضَى قِتَالُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى صَفِّهِ وَفَّى لَهُ بِالشَّرْطِ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ قِتَالَهُ، أَوْ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحِ، فَيَتْبَعَهُ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يُجْهِزَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزَ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَاتَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَهُمْ إنْقَاذَهُ فَقَدْ نَقَضَ أَمَانَهُ. وَإِنْ أَعَانَ الْكُفَّارُ صَاحِبَهُمْ، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعِينُوا صَاحِبَهُمْ أَيْضًا، وَيُقَاتِلُوا مَنْ أَعَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَاتِلُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَنْجَدَهُمْ، أَوْ عُلِمَ مِنْهُ الرِّضَا بِفِعْلِهِمْ، صَارَ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ، وَجَازَ لَهُمْ قَتْلُهُ. وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ مُعَاوَنَةُ صَاحِبِهِمْ، وَإِنْ أُثْخِنَ بِالْجِرَاحِ. قِيلَ لَهُ: فَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: وَإِنْ؛ لِأَنَّ الْمُبَارَزَةَ إنَّمَا تَكُونُ هَكَذَا، وَلَكِنْ لَوْ حَجَزُوا بَيْنَهُمَا، وَخَلَّوْا سَبِيلَ الْعِلْجِ. قَالَ: فَإِنْ أَعَانَ الْعَدُوُّ صَاحِبَهُمْ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعِينَ الْمُسْلِمُونَ صَاحِبَهُمْ. وَلَنَا، أَنَّ حَمْزَةَ، وَعَلِيًّا أَعَانَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ عَلَى قَتْلِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حِينَ أُثْخِنَ عُبَيْدَةُ [فَصْلٌ الْخُدْعَةُ فِي الْحَرْبِ لِلْمُبَارِزِ وَغَيْرِهِ] (7445) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الْخُدْعَةُ فِي الْحَرْبِ لِلْمُبَارِزِ، وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ بَارَزَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ، قَالَ عَلِيٌّ: مَا بَرَزْت لِأُقَاتِلَ اثْنَيْنِ. فَالْتَفَتَ عَمْرٌو فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ، فَقَالَ عَمْرو: خَدَعْتنِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ. [فَصْلٌ غَزَوْا فِي الْبَحْرِ فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُقِيمَ بِالسَّاحِلِ] (7446) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: إذَا غَزَوْا فِي الْبَحْرِ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُقِيمَ بِالسَّاحِلِ، يَسْتَأْذِنُ الْوَالِيَ الَّذِي هُوَ عَلَى جَمِيعِ الْمَرَاكِبِ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْوَالِيَ الَّذِي فِي مَرْكَبِهِ. [مَسْأَلَةٌ أُعْطِيَ شَيْئًا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي غَزَاتِهِ] (7447) مَسْأَلَةٌ وَمَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي غَزَاتِهِ، فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُعْطَ لِغَزَاةٍ بِعَيْنِهَا، رَدَّ مَا فَضَلَ فِي الْغَزْوِ. إذَا حَمَلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ فَهِيَ لَهُ حِينَ الرُّجُوعُ مِنْ الْغَزْوِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْغَزْوِ، لَمْ يَخْلُ؛ إمَّا أَنْ يُعْطَى لِغَزْوَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ فِي الْغَزْوِ مُطْلَقًا، فَإِنْ أُعْطِيَ لِغَزْوَةٍ بِعَيْنِهَا، فَمَا فَضَلَ بَعْدَ الْغَزْوِ فَهُوَ لَهُ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أُعْطِيَ شَيْئًا فِي الْغَزْوِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: إذَا بَلَغْت وَادِي الْقُرَى فَشَأْنَك بِهِ. وَلِأَنَّهُ أَعْطَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَنَةِ وَالنَّفَقَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ، فَكَانَ الْفَاضِلُ لَهُ، كَمَا لَوْ وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ حَجَّةً بِأَلْفٍ. وَإِنْ أَعْطَاهُ شَيْئًا لِيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْغَزْوِ مُطْلَقًا، فَفَضَلَ مِنْهُ فَضْلٌ، أَنْفَقَهُ فِي غَزَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ الْجَمِيعَ لِيُنْفِقَهُ فِي جِهَةِ قُرْبَةٍ، فَلَزِمَهُ إنْفَاقُ الْجَمِيعِ فِيهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ. (7448) فَصْلٌ: وَمَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي الْغَزْوِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتْرُكُ لِأَهْلِهِ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْلِكُهُ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى رَأْسِ مَغْزَاهُ، فَيَكُونَ كَهَيْئَةِ مَالِهِ، فَيَبْعَثَ إلَى عِيَالِهِ مِنْهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ عَنْ الْغَزْوِ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِمَا أَنْفَقَهُ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلَاحًا، أَوْ آلَةَ الْغَزْوِ، فَإِنْ قَصَدَ إعْطَاءَهُ لِمَنْ يَغْزُو بِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتَّخِذُ مِنْهُ سُفْرَةً فِيهَا طَعَامٌ، فَيُطْعِمَ مِنْهَا أَحَدًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُعْطِيَهَا لِيُنْفِقَهَا فِي جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ الْجِهَادُ. [مَسْأَلَةٌ حُمِلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ فِي الْغَزْوِ] (7449) مَسْأَلَةٌ وَإِذَا حُمِلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا رَجَعَ مِنْ الْغَزْوِ فَهِيَ لَهُ. إلَّا أَنْ يَقُولَ: هِيَ حَبِيسٌ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا أَنْ تَصِيرَ فِي حَالٍ لَا تَصْلُحُ فِيهِ لِلْغَزْوِ، فَتُبَاعَ، وَتُجْعَلَ فِي حَبِيسٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إذَا ضَاقَ بِأَهْلِهِ، أَوْ كَانَ فِي مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، جَازَ أَنْ يُبَاعَ، وَيُجْعَلَ فِي مَكَان يُنْتَفَعُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا أَبْدَلَهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: حُمِلَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ. يَعْنِي أُعْطِيَهَا لِيَغْزُوَ عَلَيْهَا، فَإِذَا غَزَا عَلَيْهَا، مَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُ النَّفَقَةَ الْمَدْفُوعَةَ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ عَارِيَّةً، فَتَكُونَ لِصَاحِبِهَا، أَوْ حَبِيسًا فَتَكُونَ حَبِيسًا بِحَالِهِ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَمَلْت عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْت أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا تَشْتَرِهِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا بَاعَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ بَعْدَ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ لِلْبَيْعِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ مِنْ عُمَرَ، ثُمَّ يُقِيمَهُ لِلْبَيْعِ فِي الْحَالِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَقَامَهُ لِلْبَيْعِ بَعْدَ غَزْوِهِ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ نَحْوًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَسُئِلَ: مَتَى يَطِيبُ لَهُ الْفَرَسُ؟ قَالَ: إذَا غَزَا عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ الْعَدُوَّ جَاءَنَا فَخَرَجَ عَلَى هَذَا الْفَرَسِ فِي الطَّلَبِ إلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخَ ثُمَّ رَجَعَ. قَالَ: لَا، حَتَّى يَكُونَ غَزْوٌ. قِيلَ لَهُ: فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: إذَا بَلَغْت وَادِي الْقُرَى، فَشَأْنُك بِهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا غَزَا عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمُ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ. وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا يَقُولُ: إنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي مَكَانِهِ. وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَى أَنْ يُنْتَفَعَ بِثَمَنِهِ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ: شَأْنَك بِهِ مَا أَرَدْت. وَلَنَا، حَدِيثُ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا اشْتَرَطَ مَالِكٌ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: هِيَ حَبِيسٌ. فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَيَأْتِي شَرْحُ حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي بَابِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ (7450) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَرْكَبُ دَوَابَّ السَّبِيلِ فِي حَاجَةٍ، وَيَرْكَبُهَا وَيَسْتَعْمِلُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَرْكَبُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبَهَا وَيَعْلِفَهَا، وَأَكْرَهُ سِيَاقَ الرَّمَكِ عَلَى الْفَرَسِ الْحَبِيسِ، وَسَهْمُ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِمَنْ غَزَا عَلَيْهِ، وَلَا يُبَاعُ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إلَّا مِنْ عِلَّةٍ، إذَا عَطِبَ يَصِيرُ لِلطَّحْنِ، وَيَصِيرُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، أَوْ يُنْفَقُ ثَمَنُهُ عَلَى الدَّوَابِّ الْحَبِيسِ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ فَرَسًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ شِرَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ الثَّغْرِ، لِيَكُونَ تَوْسِعَةً عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ فِي الْجَلْبِ. [مَسْأَلَةٌ لِلْإِمَامِ التَّصَرُّفُ فِي سَبَايَا الْحَرْبِ] (7451) مَسْأَلَةٌ وَإِذَا سَبَى الْإِمَامُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ رَأَى قَتَلَهُمْ، وَإِنْ رَأَى مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ بِلَا عِوَضٍ، وَإِنْ رَأَى أَطْلَقَهُمْ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ رَأَى فَادَى بِهِمْ، وَإِنْ رَأَى اسْتَرَقَّهُمْ، أَيَّ ذَلِكَ رَأَى فِيهِ نِكَايَةً لِلْعَدُوِّ وَحَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَيَصِيرُونَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ السَّبْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَسْتَرِقُّهُمْ إذَا سَبَاهُمْ. الثَّانِي، الرِّجَالُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس الَّذِينَ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ الْقَتْلُ، وَالْمَنُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْمُفَادَاةُ بِهِمْ، وَاسْتِرْقَاقُهُمْ. الثَّالِثُ، الرِّجَالُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَيَتَخَيَّرُ، الْإِمَامُ فِيهِمْ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْقَتْلُ، أَوْ الْمَنُّ، وَالْمُفَادَاةُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَبِمَا ذَكَرْنَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ مَالِكٍ كَمَذْهَبِنَا. وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، كَرَاهَةُ قَتْلِ الْأَسْرَى. وَقَالُوا: لَوْ مَنَّ عَلَيْهِ أَوْ فَادَاهُ كَمَا صُنِعَ بِأُسَارَى بَدْرٍ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . فَخَيَّرَ بَعْدَ الْأَسْرِ بَيْنَ هَذَيْنِ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ شَاءَ ضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ، لَا غَيْرُ، وَلَا يَجُوزُ مَنٌّ وَلَا فِدَاءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعِيَاضُ بْنُ عُقْبَةَ، يَقْتُلَانِ الْأُسَارَى. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَأَبِي عَزَّةَ الشَّاعِرِ، وَأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ سَأَلَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَأَطْلَقْتهمْ لَهُ. وَفَادَى أُسَارَى بَدْرٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَفَادَى يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ، وَصَاحِبَ الْعَضْبَاءِ بِرَجُلَيْنِ. وَأَمَّا الْقَتْلُ؛ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهُمْ بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ وَالسَّبْعِمِائَةِ، وَقَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، صَبْرًا، وَقَتَلَ أَبَا عَزَّةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَذِهِ قَصَصٌ عَمَّتْ وَاشْتَهَرَتْ، وَفَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّاتٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا. وَلِأَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ قَدْ تَكُونُ أَصْلَحَ فِي بَعْضِ الْأَسْرَى، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَنِكَايَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَبَقَاؤُهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ ، فَقَتْلُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ الضَّعِيفُ الَّذِي لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَفِدَاؤُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ حَسَنُ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، يُرْجَى إسْلَامُهُ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مَعُونَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَخْلِيصِ أَسْرَاهُمْ، وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ، فَالْمَنُّ عَلَيْهِ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْتَفَعُ بِخِدْمَتِهِ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، فَاسْتِرْقَاقُهُ أَصْلَحُ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالْإِمَامُ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] عَامٌّ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ، بَلْ يَنْزِلُ عَلَى مَا عَدَا الْمَخْصُوصَ، وَلِهَذَا لَمْ يُحَرِّمُوا اسْتِرْقَاقَهُ، فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، فَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ فِي الْعَجَمِ دُونَ الْعَرَبِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَلَنَا، أَنَّهُ كَافِرٌ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَلَمْ يُقَرّ بِالِاسْتِرْقَاقِ كَالْمُرْتَدِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ وَاجْتِهَادٍ، لَا تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ، فَمَتَى رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَمَتَى تَرَدَّدَ فِيهَا، فَالْقَتْلُ أَوْلَى. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي أَمِيرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا يَقْتُلُ الْأَسْرَى: وَهُوَ أَفْضَلُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: الْإِثْخَانُ أَحَبُّ إلَيَّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا يَطْمَعُ بِهِ فِي الْكَثِيرِ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ] (7452) فَصْلٌ: وَإِنْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ صَارَ رَقِيقًا فِي الْحَالِ، وَزَالَ التَّخْيِيرُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَفِي الْآخَرِ يَسْقُطُ الْقَتْلُ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَرُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَلَامَ أُخِذْت وَأَخَذْت سَابِقَةُ الْحَاجِّ؛ فَقَالَ: أُخِذْت بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَدْ أَسَرَتْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِي. فَمَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ: «لَوْ قُلْتهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك لَأَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ. وَفَادَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَيْنِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ، فَبَقِيَ بَاقِي الْخِصَالِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَسِيرٌ يَحْرُمُ قَتْلُهُ، فَصَارَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ، وَالْحَدِيثُ لَا يُنَافِي رِقَّهُ، فَقَدْ يُفَادَى بِالْمَرْأَةِ وَهِيَ رَقِيقٌ، كَمَا رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَنَفَلَهُ امْرَأَةً، فَوَهَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ بِهَا إلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَفِي أَيْدِيهمْ أُسَارَى، فَفَدَاهُمْ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ. إلَّا أَنَّهُ لَا يُفَادَى بِهِ، وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِ، إلَّا بِإِذْنِ الْغَانِمِينَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا لَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الْمَنُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِ، مَعَ كُفْرِهِ، فَمَعَ إسْلَامِهِ أَوْلَى، لِكَوْنِ الْإِسْلَامِ حَسَنَةً يَقْتَضِي إكْرَامَهُ، وَالْإِنْعَامَ عَلَيْهِ، لَا مَنْعَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ عَشِيرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ فِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ الرِّقِّ. فَأَمَّا إنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَسْرِهِ، حَرُمَ قَتْلُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ وَالْمُفَادَاةُ بِهِ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ وَهُوَ فِي حِصْنٍ، أَوْ جَوْفٍ، أَوْ مَضِيقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ بَعْدُ. [فَصْلٌ سُؤَالُ الْأُسَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ الْجِزْيَةِ] (7453) فَصْلٌ: فَإِنْ سَأَلَ الْأُسَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ تَخْلِيَتَهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا غَنِيمَةً بِالسَّبْيِ، وَأَمَّا الرِّجَالُ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَلَا يَزُولُ التَّخْيِيرُ الثَّابِتُ فِيهِمْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا. وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلٌ لَا تَلْزَمُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَحْرُمْ قَتْلُهُمْ، كَبَدَلِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. [فَصْلٌ أُسِرَ الْعَبْدُ فِي الْحَرْبِ] (7454) فَصْلٌ: وَإِذَا أُسِرَ الْعَبْدُ صَارَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُمْ اُسْتُوْلِيَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لِلْغَانِمِينَ، كَالْبَهِيمَةِ، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُ لِضَرَرٍ فِي بَقَائِهِ، جَازَ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ، وَأَمَّا مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ غَيْرَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، كَالشَّيْخِ وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالرَّاهِبِ، فَلَا يَحِلُّ سَبْيُهُمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ حَرَامٌ، وَلَا نَفْعَ فِي اقْتِنَائِهِمْ. (7455) فَصْلٌ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا كَانَ مَوْلَى مُسْلِمٍ، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ تَفْوِيتَ وَلَاءِ الْمُسْلِمِ الْمَعْصُومِ. وَعَلَى قَوْلِهِ، لَا يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُعْتِقُهُ ذِمِّيًّا، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، فَاسْتِرْقَاقُ مَوْلَاهُ أَوْلَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، كَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ جَوَازِ الِاسْتِرْقَاقِ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ، مَعَ كَوْنِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِرْقَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَسْبِيُّ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، لَمْ يَجُزْ فِيهِ سِوَى الِاسْتِرْقَاقِ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِيهِ. وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْقَتْلِ؛ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ الْوَلَاءَ، وَهُوَ جَائِزٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِذِمِّيٍّ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ سَيِّدَهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، وَلَا تَفْوِيتُ حُقُوقِهِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا. [مَسْأَلَة سَبِيل مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْهُمْ فِي الْحَرْبُ] (7456) مَسْأَلَةٌ: وَسَبِيلُ مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْهُمْ، وَمَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى إطْلَاقِهِمْ، سَبِيلُ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ يَعْنِي مَنْ صَارَ مِنْهُمْ رَقِيقًا بِضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِ، أَوْ فُودِيَ بِمَالٍ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، يُخَمَّسُ ثُمَّ يُقْسَمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ فِدَاءَ أُسَارَى بَدْرٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَشْبَهَ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَسْرُ لَمْ يَكُنْ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ حَقٌّ، فَكَيْفَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِبَدَلِهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ فِي الِاسْتِرْقَاقِ مَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَالًا، فَإِذَا صَارَ مَالًا، تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَانِمِينَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَسَرُوهُ وَقَهَرُوهُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، إذَا قُتِلَ قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ الْخِيَارُ، فَإِذَا اخْتَارُوا الدِّيَةَ، تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ اسْتِرْقَاقُ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ دُونَ الرِّجَالِ] (7457) مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ اسْتِرْقَاقُهُمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مَجُوسًا، وَأَمَّا مَا سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْعَدُوِّ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ بَالِغِي رِجَالِهِمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ أَوْ الْفِدَاءُ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ رِجَالِهِمْ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. (7458) فَصْلٌ: فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالصَّبِيَّانِ، فَيَصِيرُونَ رَقِيقًا بِالسَّبْيِ. وَمَنَعَ أَحْمَدُ مِنْ فِدَاءِ النِّسَاءِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِنَّ تَعْرِيضًا لَهُنَّ لِلْإِسْلَامِ، لِبَقَائِهِنَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَّزَ أَنْ يُفَادَى بِهِنَّ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِنْقَاذَ مُسْلِمٍ مُتَحَقِّقٍ إسْلَامُهُ، فَاحْتَمَلَ تَفْوِيتَ غَرَضِيَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ احْتِمَالُ فَوَاتِهَا، لِتَحْصِيلِ الْمَالِ. فَأَمَّا الصِّبْيَانُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُفَادَى بِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيه، فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْمُشْرِكِينَ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أَسْلَمَتْ لَمْ يَجُزْ رَدُّهَا إلَى الْكُفَّارِ بِفِدَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وَلِأَنَّ فِي رَدِّهَا إلَيْهِمْ تَعْرِيضًا لَهَا لِلرُّجُوعِ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَاسْتِحْلَالِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ، كَاَلَّذِي سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ، لَمْ يَجُزْ فِدَاؤُهُ بِمَالِ. وَهَلْ يَجُوزُ فِدَاؤُهُ بِمُسْلِمٍ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. [فَصْلٌ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَافِرٍ] (7459) فَصْلٌ: وَلَمْ يُجَوِّزْ أَحْمَدُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَافِرٍ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّقِيقُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَشْتَرُوا مِمَّا سَبَى الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا. قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى عَنْهُ أُمَرَاءَ الْأَمْصَارِ. هَكَذَا حَكَى أَهْلُ الشَّامِ، وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ابْتِدَائِهِ، كَالْمُسْلِمِ. وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ، وَلَمْ يُنْكَرْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتًا لِلْإِسْلَامِ الَّذِي يَظْهَرُ وُجُودُهُ، فَإِنَّهُ إذَا بَقِيَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ إسْلَامُهُ، فَيَفُوتُ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ لِكَافِرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَقِيقًا لِكَافِرٍ فِي ابْتِدَائِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ هَذِهِ الْغَرَضِيَّةُ، وَالدَّوَامُ يُخَالِفُ الِابْتِدَاءَ لِقُوَّتِهِ. [فَصْلٌ أَسَرَ أَسِيرًا فِي الْحَرْبِ] (7460) فَصْلٌ: وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَتْلُهُ، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَارَ أَسِيرًا، فَالْخِيرَةُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدْ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَقْتُلُ أَسِيرَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَالِي. فَمَفْهُومُهُ أَنَّ لَهُ قَتْلَ أَسِيرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَالِي؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ ابْتِدَاءً، فَكَانَ لَهُ قَتْلُهُ دَوَامًا، كَمَا لَوْ هَرَبَ مِنْهُ أَوْ قَاتَلَهُ. فَإِنْ امْتَنَعَ الْأَسِيرُ أَنْ يَنْقَادَ مَعَهُ، فَلَهُ إكْرَاهُهُ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إكْرَاهُهُ، فَلَهُ قَتْلُهُ. وَإِنْ خَافَهُ أَوْ خَافَ هَرَبَهُ، فَلَهُ قَتْلُهُ أَيْضًا. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَهُ، لِجُرْحٍ أَوْ مَرَضٍ، فَلَهُ قَتْلُهُ أَيْضًا. وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ قَتْلِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ، كَمَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ حَيًّا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ، فَتَعَيَّنَ الْقَتْلُ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ إذَا أَمْكَنَهُ قَتْلُهُ، وَكَجَرِيحِهِمْ إذَا لَمْ يَأْسِرْهُ. فَأَمَّا أَسِيرُ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ لِمَنْ أَسَرَهُ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَتَعَاطَيَنَّ أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ إذَا أَخَذَهُ فَيَقْتُلُهُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. فَإِنْ قَتَلَ أَسِيرَهُ، أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَسَاءَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ غَرِمَ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا لَهُ قِيمَةٌ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ امْرَأَةً وَلَنَا، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، أَسَرَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَابْنَهُ عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَآهُمَا بِلَالٌ، فَاسْتَصْرَخَ الْأَنْصَارَ عَلَيْهِمَا حَتَّى قَتَلُوهُمَا، وَلَمْ يَغْرَمُوا شَيْئًا. وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَمْ يَغْرَمْهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، فَلَمْ يَغْرَمْهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ كَلْبًا، فَأَمَّا إنْ قَتَلَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، غَرِمَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ. [فَصْلٌ أُسِرَ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا] (7461) فَصْلٌ: وَمَنْ أُسِرَ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا الظَّاهِرُ خِلَافُهُ، يَتَعَلَّقُ بِهِ إسْقَاطُ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ، حَلَفَ مَعَهُ، وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ. وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَنْ يُفْدَى، أَوْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْته يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ» فَقَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَحْدَهُ. [مَسْأَلَةٌ يُنَفِّلُ الْإِمَامُ وَمَنْ اسْتَخْلَفَهُ] (7462) مَسْأَلَةٌ: (وَيُنَفِّلُ الْإِمَامُ وَمَنْ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَدَأَتْهُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَفِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ) النَّفَلُ زِيَادَةٌ تُزَادُ عَلَى سَهْمِ الْغَازِي، وَمِنْهُ نَفْلُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا زِيدَ عَلَى الْفَرْضِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] . كَأَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا، فَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَ وَزَادَهُ وَلَدَ الْوَلَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْبِدَايَةِ هَا هُنَا، ابْتِدَاءُ دُخُولِ الْحَرْبِ، وَالرَّجْعَةِ رُجُوعُهُ عَنْهَا. وَالنَّفَلُ فِي الْغَزْوِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا، بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةً تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ مِنْ شَيْءٍ، أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لَهُمْ، وَهُوَ رُبْعُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خُمُسٌ آخَرُ، ثُمَّ قَسَمَ مَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ. فَإِذَا قَفَلَ، بَعَثَ سَرِيَّةً تُغِيرُ، وَجَعَلَ لَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، ثُمَّ قَسَمَ سَائِرَهُ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ. وَبِهَذَا قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] فَخَصَّهُ بِهَا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٌ يَقُولَانِ: لَا نَفْلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُخْرَجُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ الَّتِي هِيَ لَهُمْ، لَمْ يَكُنْ نَفْلًا، وَكَانَ مِنْ سِهَامِهِمْ وَلَنَا مَا رَوَى حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، قَالَ: «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدَاءَةَ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ» . وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ إذَا قَفَلَ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الْقُفُولِ الثُّلُثَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَفِّلُهُمْ إذَا خَرَجُوا بَادِينَ الرُّبُعَ وَيُنَفِّلُهُمْ إذَا قَفَلُوا الثُّلُثَ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي قَوْمِهِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ لَك أَنْ تَأْتِيَ الْكُوفَةَ، وَلَك الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ وَشَيْءٍ؟ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ يُغْرِيهِمْ بِذَلِكَ. فَأَمَّا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَإِنَّ مَكْحُولًا قَالَ لَهُ حِينَ قَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: شَغَلَك أَكْلُ الزَّبِيبِ بِالطَّائِفِ. وَمَا ثَبَتَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ دَلِيلٌ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ بَعِيرًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، يَكُونُ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَخُمُسُ الْخُمُسِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَجُزْءٌ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَكْثَرُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ أَقَلَّ مِنْهُ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ إذَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، وَالْبَعِيرُ مِنْهَا ثُلُثُ الْخُمُسِ، فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ أَخْذُ ثُلُثِ الْخُمُسِ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؟ فَهَذَا مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَنَّ النَّفَلَ كَانَ لِلسَّرِيَّةِ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ. عَلَى أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يُعَارَضُ بِشَيْءٍ مُسْتَنْبَطٍ، يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ مَنْ اسْتَنْبَطَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا النَّفَلَ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَهُ لَهُمْ فَلَا، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ نَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الرُّجُوعِ الثُّلُثَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَاكَ إذَا نَفَلَ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُنَفِّلَهُمْ شَيْئًا، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَفِّلَهُمْ دُونَ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ شَيْئًا، جَازَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ يَسِيرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ لِلنَّفْلِ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ مَرَّةً الثُّلُثَ، وَأُخْرَى الرُّبُعَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ. فَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّفْلِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ الْإِمَامُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِهِ. وَلَنَا، أَنَّ نَفْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى إلَى الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَقَلِّ النَّفْلِ حَدٌّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَعَ قَوْلِهِ: أَنَّ النَّفَلَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ تَنَاقَضَ. فَإِنْ شَرَطَ لَهُمْ الْإِمَامُ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ، رُدُّوا إلَيْهِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْرِطَ النِّصْفَ، فَإِنْ زَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَلْيَفِ لَهُمْ بِهِ، وَيَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ. وَإِنَّمَا زِيدَ فِي الرَّجْعَةِ عَلَى الْبَدَاءَةِ فِي النَّفْلِ؛ لِمَشَقَّتِهَا، فَإِنَّ الْجَيْشَ فِي الْبَدَاءَةِ رِدْءٌ لِلسَّرِيَّةِ، تَابِعٌ لَهَا، وَالْعَدُوُّ خَائِفٌ، وَرُبَّمَا كَانَ غَارًّا، وَفِي الرَّجْعَةِ لَا رِدْءَ لِلسَّرِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْجَيْشَ مُنْصَرِفٌ عَنْهُمْ، وَالْعَدُوَّ مُسْتَيْقِظٌ كَلِبٌ. قَالَ أَحْمَدُ: فِي الْبَدَاءَةِ إذَا كَانَ ذَاهِبًا الرُّبُعُ، وَفِي الْقَفْلَةِ إذَا كَانَ فِي الرُّجُوعِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَاقُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ، فَهَذَا أَكْبَرُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْجَيْشِ؛ لِغَنَائِهِ وَبَأْسِهِ وَبَلَائِهِ، أَوْ لِمَكْرُوهٍ تَحَمَّلَهُ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ. قَالَ أَحْمَدُ: فِي الرَّجُلِ يَأْمُرُهُ الْأَمِيرُ يَكُونُ طَلِيعَةً، أَوْ عِنْدَهُ، يَدْفَعُ إلَيْهِ رَأْسًا مِنْ السَّبْيِ أَوْ دَابَّةً، قَالَ: إذَا كَانَ رَجُلٌ لَهُ غَنَاءٌ، وَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ، يُحَرَّضُ هُوَ وَغَيْرُهُ، يُقَاتِلُونَ وَيَغْنَمُونَ. وَقَالَ: إذَا نَفَّذَ الْإِمَامُ صَبِيحَةَ الْمَغَارِ الْخَيْلَ، فَيُصِيبُ بَعْضُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ، فَلِلْوَالِي أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا بِشَيْءٍ دُونَ هَؤُلَاءِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ لَهُ إعْطَاءَ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَحُجَّةُ هَذَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ قَالَ: أَغَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى إبِلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبَعْتهمْ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ، قَالَ فَبَيَّتْنَا عَدُوَّنَا، فَقَتَلْت لَيْلَتئِذٍ تِسْعَةَ أَهْلِ أَبْيَاتٍ وَأَخَذْت مِنْهُمْ امْرَأَةً، فَنَفَلَنِيهَا أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ، اسْتَوْهَبَهَا مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبْتهَا لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَقُولَ الْأَمِيرُ: مَنْ طَلَعَ هَذَا الْحِصْنَ، أَوْ هَدَمَ هَذَا السُّورَ، أَوْ نَقَبَ هَذَا النَّقْبَ، أَوْ فَعَلَ كَذَا، فَلَهُ كَذَا. أَوْ: مَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ، فَلَهُ كَذَا. فَهَذَا جَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَشْرِ دَوَابَّ، أَوْ بَقَرٍ، أَوْ غَنَمٍ، فَلَهُ وَاحِدٌ. فَمَنْ جَاءَ بِخَمْسَةٍ أَعْطَاهُ نِصْفَ مَا قَالَ لَهُمْ، وَمَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ بِقَدْرِهِ. قِيلَ لَهُ: إذَا قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعِلْجٍ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. فَجَاءَ بِعِلْجٍ، يَطِيبُ لَهُ مَا يُعْطَى؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَرِهَ مَالِكٌ هَذَا الْقَسْمَ، وَلَمْ يَرَهُ، وَقَالَ: قِتَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا هُوَ لِلدُّنْيَا. وَقَالَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ: لَا نَفْلَ إلَّا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . إلَّا بَعْدَ أَنْ بَرَدَ الْقِتَالُ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبٍ، وَعُبَادَةَ، وَمَا شَرَطَهُ عُمَرُ، لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ، فَجَازَ، كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَزِيَادَةِ السَّهْمِ لِلْفَارِسِ، وَاسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ الْقِتَالُ. قُلْنَا: قَوْلُهُ ذَلِكَ ثَابِتُ الْحُكْمِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ الْغَزَوَاتِ بَعْدَ قَوْلِهِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا كَالْمَشْرُوطِ فِي أَوَّلِ الْغَزَاةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ هَذَا، إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، فَاعْتُبِرَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ، كَأُجْرَةِ الْحَمَّالِ وَالْحَافِظِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ النَّفَلَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ. وَذَكَرَ الْخَلَّالُ أَنَّهُ لَا نَفْلَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْهَا، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. وَلَنَا، حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَعُبَادَةَ، وَجَرِيرٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهُمْ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا غَنِمُوهُ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ، فَجَازَ النَّفَلُ فِيهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا الْقَاتِلُ، فَإِنَّمَا نَفْلُ السَّلَبِ، وَلَيْسَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ السَّلَبِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ غَيْرَ مَا جُعِلَ لَهُ. [فَصْلٌ رَجَعَ إلَى السَّاقَةِ فِي الْجِهَاد] (7463) فَصْلٌ: نَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إذَا قَالَ مَنْ رَجَعَ إلَى السَّاقَةِ فَلَهُ دِينَارٌ، وَالرَّجُلُ يَعْمَلُ فِي سِيَاقَةِ الْغَنَمِ قَالَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّامِ يَفْعَلُونَ هَذَا، وَقَدْ يَكُونُ فِي رُجُوعِهِمْ إلَى السَّاقَةِ وَسِيَاقَةِ الْغَنَمِ مَنْفَعَةٌ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَغَارَ عَلَى قَرْيَةٍ، فَنَزَلَ فِيهَا وَالسَّبْيُ وَالدَّوَابُّ وَالْخُرْثِيُّ مَعَهُمْ فِي الْقَرْيَةِ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ جَمْعِهِ الْكَسَلُ، لَا يَخَافُونَ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ، فَيَقُولُ الْإِمَامُ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ، فَلَهُ ثَوْبٌ، وَلِمَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ رَأْسٌ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَدْلٍ مِنْ دَقِيقِ الرُّومِ، فَلَهُ دِينَارٌ، يُرِيدهُ لِطَعَامِ السَّبْيِ، مَا تَرَى فِي أَخْذِ الدِّينَارِ؟ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. قِيلَ فَالْإِمَامُ يُخْرِجُ السَّرِيَّةَ وَقَدْ نَفَلَهُمْ جَمِيعًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْمَغَارِ، نَادَى: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ، فَلَهُ رَأْسٌ، وَمَنْ جَاءَ بِكَذَا، فَلَهُ كَذَا، فَيَذْهَبُ النَّاسُ فَيَطْلُبُونَ، فَمَا تَرَى فِي هَذَا النَّفْلِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا كَانَ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ الثُّلُثَ. قُلْت: فَلَا بَأْسَ بِنَفَلَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ الثُّلُثَ، غَيْرَ مَرَّةٍ سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَنْ يَبْذُلَا جَعَلَا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ] (7464) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَنْ يَبْذُلَا جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ طَرِيقِ سَهْلٍ، أَوْ مَاءٍ فِي مَفَازَةٍ، أَوْ قَلْعَةٍ يَفْتَحُهَا، أَوْ مَالٍ يَأْخُذُهُ، أَوْ عَدُوٍّ يُغِيرُ عَلَيْهِ، أَوْ ثُغْرَةٍ يَدْخُلُ مِنْهَا. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ فِي مَصْلَحَةٍ، فَجَازَ، كَأُجْرَةِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ مَنْ دَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ. وَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلُ بِفِعْلِ مَا جُعِلَ لَهُ الْجُعْلُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مِنْ الْجَيْشِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ جُعِلَ لَهُ الْجُعْلُ مِمَّا فِي يَدِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهَا جَعَالَةٌ بِعِوَضٍ مِنْ مَالٍ مَعْلُومٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَالْجَعَالَةِ فِي رَدِّ الْآبِقِ، وَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، جَهَالَةً لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَلَا تُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلسَّرِيَّةِ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ مِمَّا غَنِمُوهُ، وَهُوَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ كُلَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَالْجَعَالَةُ إنَّمَا تَجُوزُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ جَعَلَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً إنْ دَلَّهُ عَلَى قَلْعَةٍ يَفْتَحُهَا، مِثْلُ أَنَّ جَعَلَ لَهُ بِنْتَ رَجُلٍ عَيَّنَهُ مِنْ أَهْلِ الْقَلْعَةِ، لَمْ يَسْتَحِقّ شَيْئًا حَتَّى يَفْتَحَ الْقَلْعَةَ؛ لِأَنَّ جَعَالَةَ شَيْءٍ مِنْهُ اقْتَضَتْ اشْتِرَاطَ فَتْحِهَا، فَإِذَا فُتِحَتْ الْقَلْعَةُ عَنْوَةً، سُلِّمَتْ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَإِنَّهَا عَصَمَتْ نَفْسَهَا بِإِسْلَامِهَا، فَتَعَذَّرَ دَفْعُهَا إلَيْهِ، فَتُدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَتُهَا. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا رَدَّهُ إلَيْهِمْ، فَجَاءَهُ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ، مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْ رَدِّهِنَّ. وَلَوْ كَانَ الْجُعْلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْقَلْعَةِ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، عَصَمَ أَيْضًا نَفْسَهُ، وَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ، وَكَانَ لِصَاحِبِ الْجُعْلِ قِيمَتُهُ. وَإِنْ كَانَ إسْلَامُ الْجَارِيَةِ أَوْ الرَّجُلِ بَعْدَ أَسْرِهِمْ، سُلِّمَا إلَيْهِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَلَهُ قِيمَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَبْتَدِئُ الْمِلْكَ عَلَى مُسْلِمٍ. وَإِنْ مَاتَا قَبْلَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ حَقُّهُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَسَقَطَ حَقُّهُ، كَالْوَدِيعَةِ. وَفَارَقَ مَا إذَا أَسْلَمَا، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمَا مُمْكِنٌ، لَكِنْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْفَتْحُ صُلْحًا، فَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ الْجَارِيَةَ وَالرَّجُلَ، وَسُلَّمِهِمَا صَحَّ، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، طُلِبَ الْجُعْلُ مِنْ صَاحِبِ الْقَلْعَةِ، وَبُذِلَتْ لَهُ قِيمَتُهُمَا، فَإِنْ سُلِّمَا إلَى الْإِمَامِ، سَلَّمَهُمَا إلَى صَاحِبِهِمَا، وَإِنْ أَبَى، عُرِضَ عَلَى مُشْتَرِطِهِمَا قِيمَتُهُمَا، فَإِنْ أَخَذَهَا، أُعْطِيَهَا وَتَمَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ أَبَى، فَقَالَ الْقَاضِي: يُفْسَخُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ قَدْ تَعَذَّرَ إمْضَاءُ الصُّلْحِ فِيهِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُعْلِ سَابِقٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّلْحِ. وَنَحْوُ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلِصَاحِبِ الْقَلْعَةِ أَنْ يُحَصِّنَهَا مِثْلَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْضِيَ الصُّلْحُ، وَتُدْفَعَ إلَى صَاحِبِ الْجُعْلِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ دَفْعُهُ إلَيْهِ مَعَ بَقَائِهِ، فَدُفِعَتْ إلَيْهِ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْجُعْلُ قَبْلَ الْفَتْحِ، أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ وَصَاحِبُ الْجُعْلِ كَافِرٌ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْجُعْلِ سَابِقٌ. قُلْنَا: إلَّا أَنَّ الْمَفْسَدَةَ فِي فَسْخِ الصُّلْحِ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُودُ عَلَى الْجَيْشِ كُلِّهِ، وَرُبَّمَا عَادَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فِي كَوْنِ هَذِهِ الْقَلْعَةِ يَتَعَذَّرُ فَتْحُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَبْقَى ضَرَرُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَجُوزُ تَحَمُّلُ هَذِهِ الْمُضِرَّةِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ عَنْ وَاحِدٍ، فَإِنَّ ضَرَرَ صَاحِبِ الْجُعْلِ إنَّمَا هُوَ فِي فَوَاتِ عَيْنِ الْجُعْلِ، وَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَ عَيْنِ الشَّيْءِ وَقِيمَتِهِ يَسِيرٌ، سِيَّمَا وَهُوَ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَمُرَاعَاةُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ بِدَفْعِ الضَّرَرِ الْكَثِيرِ عَنْهُمْ، أَوْلَى مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي مَنْ وَجَدَ مَالَهُ قَبْلَ قَسْمِهِ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ قَسْمِهِ، لَمْ يَأْخُذْهُ إلَّا بِثَمَنِهِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الضَّرَرِ بِنَقْصِ الْقِيمَةِ، أَوْ حِرْمَانِ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي سَهْمِهِ. [فَصْلٌ النَّفَلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ] (7465) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَالنَّفَلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ. هَذَا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَفُقَهَاءِ الشَّامِ؛ مِنْهُمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَعُبَادَةَ بْنُ نُسَيٍّ، وَعَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ، وَمَكْحُولٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ، وَيَحْيَى بْنُ جَابِرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا. قَالَ أَحْمَدُ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولَانِ: لَا نَفْلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ. فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِمَا هَذَا مَعَ عِلْمِهِمَا، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَطَائِفَةٌ: إنْ شَاءَ الْإِمَامُ نَفَلَهُمْ قَبْلَ الْخُمُسِ، وَإِنْ شَاءَ بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَإِنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ الْخُمُسِ. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ. وَلَنَا مَا رَوَى مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقُولُ: «لَا نَفْلَ إلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَهَذَا صَرِيحٌ. وَحَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ» . وَحَدِيثُ جَرِيرٍ حِينَ قَالَ لَهُ عُمَرُ وَلَك الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ الثُّلُثَ، وَلَا يَتَصَوَّرُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْخُمُسِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ خَارِجًا مِنْ الْغَنِيمَةِ كُلِّهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَيْشٍ قِبَلَ نَجْدٍ، وَابْتُعِثَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ الْجَيْشِ، فَكَانَ سُهْمَانُ الْجَيْشِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَلَ أَهْلَ السَّرِيَّةِ بَعِيرًا بَعِيرًا، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا» . فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَفْلُهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، كَمَا تُنْفَلَ السَّرَايَا. وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَى جَمِيعَ الْجَيْشِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَفْلًا، وَكَانَ قَدْ قَسَمَ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَهُوَ خِلَافُ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ (7466) فَصْلٌ: وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي أَنَّ النَّفَلَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، عَامٌّ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ النَّفْلِ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ فَلَهُ كَذَا، أَوْ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ مِنْهَا. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ الْجُعْلِ، فَأَشْبَهَ السَّلَبَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَخْمُوسٍ. وَيَحْتَمِلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ زِيَادَةُ بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَلَى سَهْمِهِ لِغِنَائِهِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُعَدِّ لِلْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ عَطِيَّةَ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ. وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عَطِيَّةَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، سَهْمَ الْفَارِسِ زِيَادَةً عَلَى سَهْمِهِ، إنَّمَا كَانَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَرُدُّ مَنْ نَفَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي السَّرِيَّةِ] (7467) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرُدُّ مَنْ نَفَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي السَّرِيَّةِ، إذْ بِقُوَّتِهِمْ صَارَ إلَيْهِ) هَذَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِ النَّفْلِ، وَهُوَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، وَنَفَلَهَا الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ، فَدَفَعَ النَّفَلَ إلَى بَعْضِهِمْ، وَخَصَّهُ بِهِ، أَوْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ فَنَفَلَهُ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَنْفُلْهُ، شَارَكَ مَنْ نُفِلَ مَنْ لَمْ يُنْفَلْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا أَخَذُوا بِقُوَّةِ هَؤُلَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا النَّفَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَاعَةِ بَيْنَهُمْ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَالْغَنِيمَةِ. فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْخِرَقِيِّ، مِثْلُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْجَيْشِ بِنَفْلٍ لِغَنَائِهِ، أَوْ لِجَعْلِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ، فَجَاءَ وَاحِدٌ بِعَشَرَةٍ دُونَ الْجَيْشِ، فَإِنَّ مَنْ نُفِلَ يَخْتَصُّ بِنَفْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَصَّ مِنْ قَتَلَ بِسَلَبِ قَتِيلِهِ اخْتَصَّ بِهِ، وَلَمَّا خَصَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ بِسَهْمِ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ اخْتَصَّ بِهِ. وَكَذَلِكَ اخْتَصَّ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي نَفْلهَا إيَّاهُ أَبُو بَكْرٍ دُونَ النَّاسِ، وَلِأَنَّ هَذَا جُعِلَ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ، وَحَثًّا عَلَى فِعْلِ مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ؛ لِيَحْمِلَ فَاعِلُهُ كُلْفَةَ فِعْلِهِ، رَغْبَةً فِيمَا جُعِلَ لَهُ، فَلَوْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ فَاعِلُهُ، مَا خَاطَرَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ فِي فِعْلِهِ، وَلَا حَصَلَتْ مَصْلَحَةُ النَّفْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ بِنَفْلِهِ. كَثَوَابِ الْآخِرَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ قَتَلَ مِنَّا أَحَدًا مِنْهُمْ مُقْبِلًا عَلَى الْقِتَالِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فِي الْجُمْلَةِ] (7468) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَنْ قَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ مُقْبِلًا عَلَى الْقِتَالِ، فَلَهُ سَلَبُهُ غَيْرَ مَخْمُوسٍ، قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ سِتَّةٌ: (7469) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مِنْهُمْ أَنَسٌ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا، رَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْت لَهُ حَتَّى أَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبْته بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ ثُمَّ إنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ. قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لَك يَا أَبَا قَتَادَةَ. فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَا هَا اللَّهِ إذَا تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، فَيُعْطِيك سَلَبَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَ، فَأَسْلِمْهُ إلَيْهِ. قَالَ: فَأَعْطَانِيهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ «قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ.» فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، فَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [الْفَصْلُ الثَّانِي السَّلَبُ لِكُلِّ قَاتِلٍ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ أَوْ الرَّضْخَ] (7470) أَنَّ السَّلَبَ لِكُلِّ قَاتِلٍ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ أَوْ الرَّضْخَ، كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُشْرِكِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْعَبْدَ إذَا بَارَزَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَقَتَلَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ، وَيُرْضَخُ لَهُ مِنْهُ؛ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ آكَدُ مِنْهُ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَالسَّلَبُ أَوْلَى. وَلَنَا، عُمُومُ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ قَاتِلٌ مِنْ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ،، فَاسْتَحَقَّ السَّلَبَ، كَذَا السَّهْمَ، وَلِأَنَّ الْأَمِيرَ لَوْ جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ صَنَعَ شَيْئًا فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، لَاسْتَحَقَّهُ فَاعِلُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَاَلَّذِي جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. وَفَارَقَ السَّهْمَ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ عَلَى الْمَظِنَّةِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَقُّ بِالْحُضُورِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَغَيْرُهُ، وَالسَّلَبُ مُسْتَحَقٌّ بِحَقِيقَةِ الْفِعْلِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَاسْتَحَقَّهُ، كَالْمَجْعُولِ لَهُ جُعْلًا عَلَى فِعْلٍ إذَا فَعَلَهُ. فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمًا وَلَا رَضْخًا، كَالْمُرْجِفِ وَالْمُخَذِّلِ وَالْمُعِينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ وَإِنْ قَتَلَ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ. وَإِنْ بَارِزَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ، السَّلَبَ، لِأَنَّهُ عَاصٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَاصٍ، مِثْلُ مَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَمِيرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَمِيرِ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ، وَبَاقِيه لَهُ، جَعَلَهُ كَالْغَنِيمَةِ، وَيُخْرَجُ فِي الْعَبْدِ الْمُبَارِزِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ مِثْلُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَلَبُ قَتِيلِ الْعَبْدِ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، فَفِي حِرْمَانِهِ السَّلَبَ حِرْمَانُ سَيِّدِهِ، وَلَا مَعْصِيَةَ مِنْهُ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ فِي كُلِّ حَالٍ] (7471) أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فِي كُلِّ حَالٍ، إلَّا أَنْ يَنْهَزِمَ الْعَدُوُّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: إذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ، فَلَا سَلَبَ لَهُ، إنَّمَا النَّفَلُ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ نَافِعٍ. كَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، مَا لَمْ تَمْتَدَّ الصُّفُوفُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا سَلَبَ لِأَحَدٍ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَلِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ إنَّمَا قَتَلَ الَّذِي أَخَذَ سَلَبَهُ فِي حَالِ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَنَسٍ: فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ، لِأَنَّ هَوَازِنَ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ فَجْأَةً، فَأَلْحَمُوا الْحَرْبَ قَبْلَ أَنْ تَتَقَدَّمَهَا مُبَارَزَةٌ. وَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: غَزَوْنَا إلَى طَرَفِ الشَّامِ، فَأُمِّرَ عَلَيْنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَانْضَمَّ إلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرَ، فَقُضِيَ لَنَا أَنَّا لَقِينَا عَدُوَّنَا، فَقَاتَلُونَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ الرُّومِ، عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ، وَسَرْجٍ مُذْهَبٍ، وَمِنْطَقَةٍ مُلَطَّخَةٍ، وَسَيْفٍ مِثْلِ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى الْقَوْمِ، وَيُغْرِي بِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ الْمَدَدِيُّ يَحْتَالُ لِذَلِكَ الرُّومِيِّ حَتَّى مَرَّ بِهِ، فَاسْتَقْفَاهُ، فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ وَقَعَ، فَأَتْبَعَهُ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفَتْحَ، أَقْبَلَ بِسَلَبِ الْقَتِيلِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّاسُ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، فَأَعْطَاهُ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبِهِ، وَأَمْسَكَ سَائِرَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتَعْدَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا خَالِدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا مَنَعَك يَا خَالِدُ أَنْ تَدْفَعَ إلَى هَذَا سَلَبَ قَتِيلِهِ؟ ". قَالَ: اسْتَكْثَرْته لَهُ. قَالَ: " فَادْفَعْهُ إلَيْهِ ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ] (7472) أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَأَمَّا إنْ قَتَلَ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ شَيْخًا فَانِيًا، أَوْ ضَعِيفًا مَهِينًا، وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُ، اسْتَحَقَّ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَمَنْ قَتَلَ أَسِيرًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ؛ لِذَلِكَ. الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ فِيهِ مَنَعَةٌ، غَيْرَ مُثْخَنٍ بِالْجِرَاحِ، فَإِنْ كَانَ مُثْخَنًا بِالْجِرَاحِ، فَلَيْسَ لِقَاتِلِهِ شَيْءٌ مِنْ سَلَبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَكْحُولٌ، وَجَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَثْبَتَ أَبَا جَهْلٍ، وَذَفَّفَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَلَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ شَيْئًا. وَإِنْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ، وَقَتَلَهُ آخِرُ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاطِعِ دُونَ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ هُوَ الَّذِي كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رَجُلَيْهِ، وَقَتَلَهُ الْآخِرُ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاطِعِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَهُ، فَأَشْبَهَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَالثَّانِي سَلَبَهُ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ سَالِمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَعْدُو وَيُكْثِرُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ سَالِمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَاتِلُ بِهِمَا، فَلَمْ يَكْفِ الْقَاطِعُ شَرَّهُ كُلَّهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ سَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ، فَكَذَلِكَ. وَإِنْ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ وَإِحْدَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ، فَسَلَبُهُ غَنِيمَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ لِمَنْ لَمْ يَكْفِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَإِنْ عَانَقَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ آخَرُ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاتِلِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ لِلْمُعَانِقِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ.» وَلِأَنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعَانِقْهُ الْآخَرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْكَافِرُ مُقْبِلًا عَلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُهُ، فَجَاءَ آخِرُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ. الثَّالِثُ، أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُثْخِنَهُ بِجِرَاحٍ تَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَقْتُولِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَكُونُ السَّلَبُ إلَّا لِلْقَاتِلِ. وَإِنْ أَسَرَ رَجُلًا، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: لَا يَكُونُ السَّلَبُ إلَّا لِمَنْ أَسَرَ عِلْجًا أَوْ قَتَلَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أُسِرَ رَجُلٌ، فَقَتَلَهُ الْإِمَامُ صَبْرًا، فَسَلَبُهُ لِمَنْ أَسَرَهُ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ أَصْعَبُ مِنْ الْقَتْلِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ بِالْقَتْلِ، كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْأَسْرِ. قَالَ: وَإِنْ اسْتَبْقَاهُ الْإِمَامُ، كَانَ لَهُ فِدَاؤُهُ، أَوْ رَقَبَتُهُ وَسَلَبُهُ، لِأَنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَلَنَا، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا أَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَتَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَاسْتَبْقَى سَائِرَهُمْ، فَلَمْ يُعْطِ مَنْ أَسَرَهُمْ أَسْلَابَهُمْ، وَلَا فِدَاءَهُمْ، وَكَانَ فِدَاؤُهُمْ غَنِيمَةً. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَلَيْسَ الْآسِرُ بِقَاتِلٍ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسْرَى، وَلَوْ كَانَ لِمَنْ أَسَرَهُ، كَانَ أَمْرُهُ إلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ. الرَّابِعُ، أَنْ يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ، فَأَمَّا إنْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ، فَلَا سَلَبَ لَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، إنَّمَا هُوَ فِي الْمُبَارَزَةِ، لَا يَكُونُ فِي الْهَزِيمَةِ. وَإِنْ حَمَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ، فَالسَّلَبُ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُغَرِّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي قَتْلِهِ. وَإِنْ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ اثْنَانِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ سَلَبَهُ غَنِيمَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: لَهُ السَّلَبُ إذَا انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ الْقَاضِي، إنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي سَلَبِهِ؛ لِقَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ، وَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي السَّبَبِ، فَاشْتَرَكَا فِي السَّلَبِ. وَلَنَا، أَنَّ السَّلَبَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالتَّغْرِيرِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِقَتْلِ الِاثْنَيْنِ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ السَّلَبُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَّكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي سَلَبٍ. فَإِنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي ضَرْبِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَبْلَغَ فِي قَتْلِهِ مِنْ الْآخَرِ، فَالسَّلَبُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ ضَرَبَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَأَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ. وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ.» وَإِنْ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ، فَأَدْرَكَ إنْسَانٌ مُنْهَزِمًا مِنْهُمْ، فَقَتَلَهُ، فَلَا سَلَبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَرِّرْ فِي قَتْلِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَانْهَزَمَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ، فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ فَرٌّ وَكَرٌّ، وَقَدْ قَتَلَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ طَلِيعَةً لِلْكُفَّارِ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ، «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَتَلَهُ؟ . قَالُوا: سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ» . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: السَّلَبُ لِكُلِّ قَاتِلٍ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَاحْتِجَاجًا بِحَدِيثِ سَلَمَةَ هَذَا. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ذَفَّفَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ، فَلَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَبَهُ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ صَبْرًا، وَلَمْ يُعْطِ سَلَبَهُمَا مَنْ قَتَلَهُمَا، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ صَبْرًا، فَلَمْ يُعْطِ مَنْ قَتَلَهُمْ أَسْلَابَهُمْ، وَإِنَّمَا أَعْطَى السَّلَبَ مَنْ قَتَلَ مُبَارِزًا، أَوْ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، وَغَرَّرَ فِي قَتْلِهِ، وَالْمُنْهَزِمُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، قَدْ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُغَرِّرْ قَاتِلُهُ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ كَالْأَسِيرِ. وَأَمَّا الَّذِي قَتَلَهُ سَلَمَةُ، فَكَانَ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ قُتِلَ حَالَ قِيَامِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُنْهَزِمًا فَهُوَ مُتَحَيِّزٌ إلَى فِئَةٍ، وَرَاجِعٌ إلَى الْقِتَالِ، فَأَشْبَهَ الْكَارَّ، فَإِنَّ الْقِتَالَ فَرٌّ وَكَرٌّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ أَنْ تَكُونَ الْمُبَارَزَةُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِالسَّلَبِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ نُقِلَ إلَيْنَا أَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي الْمُبَارَزَةِ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ السَّلَبِ لِكُلِّ قَاتِلٍ، إلَّا مَنْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ. [الْفَصْل الْخَامِس السَّلَب لَا يُخْمَسُ] (7473) أَنَّ السَّلَبَ لَا يُخْمَسُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْمَسُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَكْحُولٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنْ اسْتَكْثَرَ الْإِمَامُ السَّلَبَ خَمَسَهُ. وَذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ، أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّأْرَةِ بِالْبَحْرَيْنِ، فَطَعَنَهُ فَدَقَّ صُلْبَهُ، وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ الظُّهْرَ، أَتَى أَبَا طَلْحَةَ فِي دَارِهِ، فَقَالَ: إنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالًا، وَأَنَا خَامِسُهُ. فَكَانَ أَوَّلُ سَلَبٍ خُمِسَ فِي الْإِسْلَامِ سَلَبَ الْبَرَاءِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي السُّنَنِ. وَفِيهَا أَنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَلَنَا، مَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ يَخْمُسْ السَّلَبَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَخَبَرُ عُمَرَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ. وَقَوْلُ الرَّاوِي: كَانَ أَوَّلَ سَلَبٍ خُمِسَ فِي الْإِسْلَامِ. يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ، لَمْ يَخْمُسُوا سَلَبًا، وَاتِّبَاعُ ذَلِكَ أَوْلَى. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: لَا أَظُنُّهُ يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ سَبَقَ فِيهِ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ إلَّا اتِّبَاعُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَصْلُحُ أَنْ يُخَصَّصَ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ السَّلَبَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحْتَسَبُ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ احْتَسَبَ بِهِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ احْتَسَبَ بِهِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ وَقَدْرِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، كَسَهْمِ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ. [الْفَصْل السَّادِس الْقَاتِل يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ] (7474) أَنَّ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا أَنْ يَشْرِطَهُ الْإِمَامُ لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَسْتَحِقُّهُ، إلَّا أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَرَ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي النَّفْلِ، وَجَعَلُوا السَّلَبَ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ مَدَدِيًّا اتَّبَعَهُمْ، فَقَتَلَ عِلْجًا، فَأَخَذَ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبَهُ، وَأَعْطَاهُ بَعْضَهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَأَنَا اخْتَصَرْته. وَرَوَيَا بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ شِبْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، قَالَ: بَارَزْت رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَتَلْته، وَأَخَذْت سَلَبَهُ، فَأَتَيْت بِهِ سَعْدًا، فَخَطَبَ سَعْدٌ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا سَلَبُ شِبْرٍ، خَيْرٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِنَّا قَدْ نَفَلْنَاهُ إيَّاهُ. وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْلِهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ سَلَبِ الْبَرَاءِ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ سَلَبَ أَبِي قَتَادَةَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَهَذَا مِنْ قَضَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي عَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَأَخْبَارُهُمْ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ احْتَجَّ عَلَى خَالِدٍ حِينَ أَخَذَ سَلَبَ الْمَدَدِيَّ، فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ: أَمَّا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى. وَقَوْلُ عُمَرَ: إنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ، وَحُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ لِكُلِّ قَاتِلٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدًا أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَى الْمَدَدِيِّ عُقُوبَةً، حِينَ أَغْضَبَهُ عَوْفٌ بِتَقْرِيعِهِ خَالِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ أَنْجَزْت لَك مَا ذَكَرْت لَك مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا خَبَرُ شِبْرٍ، فَإِنَّمَا أَنْفَذَ لَهُ سَعْدٌ مَا قَضَى لَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهُ نَفْلًا، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْلٌ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى سَهْمِهِ. وَأَمَّا أَبُو قَتَادَةَ، فَإِنَّ خَصْمَهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِهِ، وَصَدَّقَهُ، فَجَرَى مَجْرَى الْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى شَرْطِهِ، كَالسَّهْمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ السَّلَبَ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إذْنٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِجَعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَأْمَنُ إنْ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعْطَاهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ فِعْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ أَمْرُهُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَأَخْذِ سَهْمِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَحْمَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ فَعَلَى هَذَا، إنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ، تَرَكَ الْفَضِيلَةَ، وَلَهُ مَا أَخَذَهُ. [مَسْأَلَة لِلْقَاتِلِ سَلَب مَا عَلَى الدَّابَّة وَمَا عَلَيْهَا مِنْ آلَتِهَا مِنْ السَّلَبِ] (7475) مَسْأَلَة قَالَ: (وَالدَّابَّةُ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ آلَتِهَا مِنْ السَّلَبِ، إذَا قُتِلَ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّلَبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الدَّابَّةَ لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّلَبَ مَا كَانَ الْقَتِيلُ لَابِسًا لَهُ، مِنْ ثِيَابٍ، وَعِمَامَةٍ، وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ، وَدِرْعٍ، وَمِغْفَرٍ، وَبَيْضَةٍ، وَتَاجٍ، وَأَسْوِرَةٍ وَرَأَنٍ، وَخُفٍّ، بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ السَّلَبِ اللِّبَاسُ، وَكَذَلِكَ السِّلَاحُ؛ مِنْ السَّيْفِ، وَالرُّمْحِ، وَالسِّكِّينِ، وَاللَّتِّ، وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي قِتَالِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْأَخْذِ مِنْ اللِّبَاسِ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهَا، فَهِيَ كَالسِّلَاحِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ بِهَا زِيَادَةَ السُّهْمَانِ، بِخِلَافِ السِّلَاحِ. فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي مَعَهُ فِي كمرانه وَخَرِيطَتِهِ، فَلَيْسَ بِسَلَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلْبُوسِ، وَلَا مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ رَحْلُهُ وَأَثَاثُهُ، وَمَا لَيْسَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَيْسَ مِنْ سَلَبِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ، كَالتَّاجِ، وَالسِّوَارِ، وَالطَّوْقِ، وَالْهِمْيَانِ الَّذِي لِلنَّفَقَةِ، لَيْسَ مِنْ السَّلَبِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، فَأَشْبَهَ الْمَالَ الَّذِي فِي خَرِيطَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، أَنَّهُ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّأْرَةِ، فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ سِوَارَاهُ وَمِنْطَقَتُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَخَمَسَهُ عُمَرُ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، أَنَّهُ حَمَلَ عَلَى أَسْوَارٍ فَطَعَنَهُ، فَدَقَّ صُلْبَهُ فَصَرَعَهُ، فَنَزَلَ إلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَأَخَذَ سِوَارَيْنِ كَانَا عَلَيْهِ، وَيَلْمَقًا مِنْ دِيبَاجٍ، وَسَيْفًا، وَمِنْطَقَةً، فَسُلِّمَ لَهُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ ثِيَابَهُ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي اسْمِ السَّلَبِ، فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ وَالْمِنْطَقَةَ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَهُ سَلَبُهُ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الدَّابَّةِ، فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ مَا كَانَ عَلَى يَدَيْهِ، وَالدَّابَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ. قَالَ: وَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، فَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ فَرَسَهُ. وَلَنَا مَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: " خَرَجْت مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ، عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ، وَسِلَاحٌ مُذْهَبٌ، فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ، فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ، وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، بَعَثَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَخَذَ مِنْ السَّلَبِ، قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْته فَقُلْت لَهُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَفِي حَدِيثِ شِبْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، أَنَّهُ أَخَذَ فَرَسَهُ. كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ فِيهِ. وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحَرْبِ، فَأَشْبَهَتْ السِّلَاحَ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالرُّمْحِ وَالْقَوْسِ وَاللَّتِّ، فَإِنَّهَا مِنْ السَّلَبِ وَلَيْسَتْ مَلْبُوسَةً. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الدَّابَّةَ وَمَا عَلَيْهَا؛ مِنْ سَرْجِهَا، وَلِجَامِهَا وَتَجْفِيفِهَا، وَحِلْيَةٍ إنْ كَانَتْ عَلَيْهَا، وَجَمِيعِ آلَتِهَا مِنْ السَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهَا، وَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ السَّلَبِ إذَا كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ مُنْفَلِتَةً، لَمْ تَكُنْ مِنْ السَّلَبِ، كَالسِّلَاحِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا فَصَرَعَهُ عَنْهَا، أَوْ أَشْعَرَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ نُزُولِهِ عَنْهَا، فَهِيَ مِنْ السَّلَبِ. وَهَكَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَإِنْ كَانَ مُمْسِكًا بِعِنَانِهَا، غَيْرَ رَاكِبٍ عَلَيْهَا، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، مِنْ السَّلَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَتْ سَيْفَهُ أَوْ رُمْحَهُ فِي يَدِهِ. وَالثَّانِيَةُ، لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَاكِبٍ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ مَعَ غُلَامِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى فَرَسٍ، وَفِي يَدِهِ جَنِيبَةٌ، لَمْ تَكُنْ الْجَنِيبَةُ مِنْ السَّلَبِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رُكُوبُهُمَا مَعًا. [فَصْل لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْقَتْلِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ] (7476) فَصْل وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْقَتْلِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُعْطَى السَّلَبَ إذَا قَالَ: أَنَا قَتَلْته. وَلَا يُسْأَلُ بَيِّنَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ قَوْلَ أَبِي قَتَادَةَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَبُو قَتَادَةُ، فَإِنَّ خَصْمَهُ أَقَرَّ لَهُ، فَاكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يُقْبَلُ إلَّا شَاهِدَانِ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى فِي الْمَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ شَاهِدٌ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ قَوْلَ الَّذِي شَهِدَ لِأَبِي قَتَادَةَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَبَرَ الْبَيِّنَةَ، وَإِطْلَاقُهَا يَنْصَرِفُ إلَى شَاهِدَيْنِ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى لِلْقَتْلِ، فَاعْتُبِرَ شَاهِدَانِ، كَقَتْلِ الْعَمْدِ. [فَصْل سَلَبُ الْقَتْلَى وَتَرْكُهُمْ عُرَاةً] (7477) فَصْل وَيَجُوزُ سَلْبُ الْقَتْلَى وَتَرْكُهُمْ عُرَاةً. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتِيلِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ. وَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُ. [مَسْأَلَة أَمَانُ الرَّجُل وَالْمَرْأَة] (7478) مَسْأَلَة قَالَ: (وَمَنْ أَعْطَاهُمْ الْأَمَانَ مِنَّا؛ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ امْرَأَةٍ، أَوْ عَبْدٍ، جَازَ أَمَانُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَمَانَ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ. وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ، كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ مَصْلَحَتِهِمْ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى فُضَيْلٍ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ، قَالَ: جَهَّزَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشًا، فَكُنْت فِيهِ، فَحَصَرْنَا مَوْضِعًا، فَرَأَيْنَا أَنَّا سَنَفْتَحُهَا الْيَوْمَ، وَجَعَلْنَا نُقْبِلُ وَنَرُوحُ، فَبَقِيَ عَبْدٌ مِنَّا، فَرَاطَنَهُمْ وَرَاطَنُوهُ، فَكَتَبَ لَهُمْ الْأَمَانَ فِي صَحِيفَةٍ، وَشَدَّهَا عَلَى سَهْمٍ، وَرَمَى بِهَا إلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهَا، وَخَرَجُوا، فَكُتِبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْحُرِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التُّهْمَةِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا أُذِنَ لَهُ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُهُ، وَبِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّ أَمَانَهَا يَصِحُّ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ. وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجَرْت أَحْمَائِي، وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت يَا أُمَّ هَانِئٍ، إنَّمَا يُجْهِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» . رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَأَمْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (7479) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَسِيرِ إذَا عَقَدَهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْأَسِيرِ. وَكَذَلِكَ أَمَانُ الْأَجِيرِ وَالتَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَلَنَا عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِهِمْ. فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، كَالْمَجْنُونِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَصِحُّ أَمَانُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَصِحُّ أَمَانُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَنْعِ عَلَى غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُمَيِّزٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْبَالِغِ، وَفَارَقَ الْمَجْنُونَ، فَإِنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَصْلًا. (7480) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ.» فَجَعَلَ الذِّمَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ. وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ مَجْنُونٍ، وَلَا طِفْلٍ، لِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ. وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ زَائِلِ الْعَقْلِ، بِنَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ إغْمَاءٍ؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ. وَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْإِقْرَارِ. (7481) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِمَنْ أُقِيمَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ كَآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ لِلْوَاحِدِ، وَالْعَشَرَةِ، وَالْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْحِصْنِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا حَدِيثَهُ. وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ، وَرُسْتَاقٍ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. (7482) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِلْأَسِيرِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْهُرْمُزَانِ أَسِيرًا، قَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْك، ثُمَّ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: قَدْ أَمَّنْته، فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهِ. وَشَهِدَ الزُّبَيْرُ بِذَلِكَ، فَعَدُّوهُ أَمَانًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ الْمَنَّ عَلَيْهِ، وَالْأَمَانُ دُونَ ذَلِكَ. فَأَمَّا آحَادُ الرَّعِيَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَارَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بَعْدَ أَسْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْأَوْزَاعِيُّ. وَلَنَا، أَنَّ أَمْرَ الْأَسِيرِ مُفَوَّضٌ إلَى الْإِمَامِ، فَلَمْ يَجُزْ الِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ، كَقَتْلِهِ. وَحَدِيثُ زَيْنَبَ فِي أَمَانِهَا، إنَّمَا صَحَّ بِإِجَازَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (7483) فَصْلٌ: وَإِذَا شَهِدَ لِلْأَسِيرِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ، قُبِلَ، إذَا كَانُوا بِصِفَةِ الشُّهُودِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّهُمْ عُدُولٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، غَيْرُ مُتَّهَمِينَ، شَهِدُوا بِأَمَانِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ أَنَّهُ أَمَّنَهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ شَهَادَةَ الْمُرْضِعَةِ عَلَى فِعْلِهَا، فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ. وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنِّي أَمَّنْته. فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْبَلُ، كَمَا لَوْ قَالَ الْحَاكِمُ بَعْدَ عَزْلِهِ: كُنْت حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِحَقٍّ. قُبِلَ قَوْلُهُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ: يَصِحُّ أَمَانُهُ، فَقُبِلَ خَبَرُهُ بِهِ، كَالْحَاكِمِ فِي حَالِ وِلَايَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ فِي الْحَالِ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. [فَصْل جَاءَ الْمُسْلِمُ بِمُشْرِكٍ ادَّعَى أَنَّهُ أَسَرَهُ وَادَّعَى الْكَافِرُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ] (7484) فَصْل إذَا جَاءَ الْمُسْلِمُ بِمُشْرِكٍ ادَّعَى أَنَّهُ أَسَرَهُ، وَادَّعَى الْكَافِرُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ، فَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إحْدَاهُنَّ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ إبَاحَةُ دَمِ الْحَرْبِيِّ، وَعَدَمُ الْأَمَانِ. وَالثَّانِيَةُ، الْقَوْلُ، قَوْلُ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ صِدْقَهُ وَحَقْنَ دَمِهِ، فَيَكُونُ هَذَا شُبْهَةً تَمْنَعُ مِنْ قَتْلِهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّالِثَةُ، يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ مَنْ ظَاهِرُ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ؛ فَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ ذَا قُوَّةٍ، مَعَهُ سِلَاحُهُ، فَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا مَسْلُوبًا سِلَاحُهُ، فَالظَّاهِرُ كَذِبُهُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُسْلِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَمَانِهِ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ كَافِرٌ، لَمْ يَثْبُتْ أَسْرُهُ، وَلَا نَازَعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْأَمَانُ، كَالرَّسُولِ. [فَصْل طَلَبَ الْأَمَان لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ] (7485) فَصْل وَمَنْ طَلَبَ الْأَمَانُ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهَ، وَيَعْرِفَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَجَبَ أَنْ يُعْطَاهُ، ثُمَّ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ إلَى النَّاسِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَيَجُوزُ عَقْدُ الْأَمَانُ لِلرَّسُولِ وَالْمُسْتَأْمِنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤَمِّنُ رُسُلَ الْمُشْرِكِينَ. وَلَمَّا جَاءَهُ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ، قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا» . وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّنَا لَوْ قَتَلْنَا رُسُلَهُمْ، لَقَتَلُوا رُسُلَنَا، فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْمُرَاسَلَةِ. وَيَجُوزُ عَقْدُ الْأَمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِمُدَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا مُقَيَّدَةً؛ لِأَنَّ فِي جَوَازِهَا مُطْلَقًا تَرْكًا لِلْجِهَادِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجُوزُ أَنْ يُقِيمُوا مُدَّةَ الْهُدْنَةِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُتْرَكُ الْمُشْرِكُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يُؤَدِّيَ. فَقَالَ أَحْمَدُ إذَا أَمَّنْته، فَهُوَ عَلَى مَا أَمَّنْته. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ خَالَفَ قَوْلَ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ سَنَةً بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ هَذَا كَافِرٌ أُبِيحَ لَهُ الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ جِزْيَةٍ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ جِزْيَةٌ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجَوِّزُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، يَسْتَوِي فِي حَقِّهِ السَّنَةُ وَمَا دُونَهَا، فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الْمُدَّتَيْنِ، فَإِذَا جَازَتْ لَهُ الْإِقَامَةُ فِي إحْدَاهُمَا، جَازَتْ فِي الْأُخْرَى، قِيَاسًا لَهَا عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . أَيْ يَلْتَزِمُونَهَا، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْإِعْطَاءِ، وَهَذَا مَخْصُوصٌ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لَهَا، وَلِأَنَّ الْآيَةَ تَخَصَّصَتْ بِمَا دُونَ الْحَوْلِ، فَنَقِيسَ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ. [فَصْل دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَوْدَعَ مَالَهُ] (7486) فَصْل وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَأَوْدَعَ مَالَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ أَقْرَضَهُمَا إيَّاهُ، ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ دَخَلَ تَاجِرًا، أَوْ رَسُولًا، أَوْ مُتَنَزِّهًا، أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَ الذِّمِّيَّ إذَا دَخَلَ لِذَلِكَ، وَإِنْ دَخَلَ مُسْتَوْطِنًا، بَطَلَ الْأَمَانُ فِي نَفْسِهِ، وَبَقِيَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ؛ ثَبَتَ الْأَمَانُ لِمَالِهِ الَّذِي مَعَهُ، فَإِذَا بَطَلَ فِي نَفْسِهِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ، بَقِيَ فِي مَالِهِ؛ لِاخْتِصَاصِ الْمُبْطِلِ بِنَفْسِهِ، فَيَخُصُّ الْبُطْلَانَ بِهِ. فَإِنْ قُتِلَ: فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِمَالِهِ تَبَعًا، فَإِذَا بَطَلَ فِي الْمَتْبُوعِ، بَطَلَ فِي التَّبَعِ. قُلْنَا: بَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْأَمَانُ لِمَعْنًى وُجِدَ فِيهِ، وَهُوَ إدْخَالُهُ مَعَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَمَانِ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ بَعَثَهُ مَعَ مُضَارِبٍ لَهُ أَوْ وَكِيلٍ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْأَمَانُ، وَلَمْ يَثْبُتُ الْأَمَانِ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَا هُنَا مَا يَقْتَضِي الْأَمَانُ فِيهِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَخَذَهُ مَعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَنُقِضَ الْأَمَانُ فِيهِ، كَمَا يَنْتَقِضُ فِي نَفْسِهِ، لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ مِنْهُمَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ صَاحِبَهُ إنْ طَلَبَهُ بُعِثَ إلَيْهِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، صَحَّ تَصَرُّفُهُ. وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْأَمَانُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لِوَارِثِهِ، وَلَمْ يَعْقِدْ فِيهِ أَمَانًا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ فِيهِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَمَانَ حَقٌّ لَهُ لَازِمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، فَإِذَا انْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ، انْتَقَلَ لِحَقِّهِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ مِنْ الرَّهْنِ، وَالضَّمِينِ، وَالشُّفْعَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ أَمَانٌ، فَيَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَمَانُ فِيهِ، كَالْمَالِ الَّذِي مَعَ مُضَارِبِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، صَارَ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَرِثُهُ، لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّ مِلَّتَهُمَا وَاحِدَةٌ، فَيَرِثُهُ كَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ حَرْبِيٌّ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ. وَإِنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَكُونُ مَالُهُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُعْلَمَ آخِرُ أَمْرِهِ، بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ كَانَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُورَثُ، وَإِنْ عَتَقَ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَرَقَّ، وَلَكِنْ مَنَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، أَوْ فَادَاهُ، فَمَالُهُ لَهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ، فَمَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسْبَ وَلَكِنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ، جَازَ قَتْلُهُ وَسَبْيُهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَمَانِ لِمَالِهِ لَا يُثْبِتُ الْأَمَانَ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ وَدِيعَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِدَارِ الْحَرْبِ. [فَصْل سَرَقَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ] (7487) فَصْل وَإِذَا سَرَقَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قَتَلَ، أَوْ غَصَبَ، ثُمَّ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجَ مُسْتَأْمِنًا مَرَّةً ثَانِيَةً، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ مَا لَزِمَهُ فِي أَمَانِهِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا، فَخَرَجَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يُغْنَمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، لِكَوْنِ الشِّرَاءِ بَاطِلًا، وَيَرُدُّ بَائِعُهُ الثَّمَنَ إلَى الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي أَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ تَالِفًا، فَعَلَى الْحَرْبِيِّ قِيمَتُهُ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ. [فَصْل دَخَلَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا فِي دَرَانَا] فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا، ثُمَّ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ، لَمْ تُمْنَعْ، إذَا رَضِيَ زَوْجُهَا أَوْ فَارَقَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، تُمْنَعُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ الْمُقَامُ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ. [مَسْأَلَة طَلَبَ الْأَمَانَ لِيَفْتَحَ الْحِصْنَ] (7489) مَسْأَلَة قَالَ: (وَمَنْ طَلَبَ الْأَمَانَ لِيَفْتَحَ الْحِصْنَ، فَفَعَلَ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا الْمُعْطِي. لَمْ يُقْتَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا حَصَرُوا حِصْنًا، فَنَادَاهُمْ رَجُلٌ: آمِنُونِي أَفْتَحْ لَكُمْ الْحِصْنَ. جَازَ أَنْ يُعْطُوهُ أَمَانًا؛ فَإِنَّ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ لَمَّا حُصِرَ النُّجَيْرُ، قَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: أَعْطُونِي الْأَمَانَ لِعَشَرَةٍ، أَفْتَحْ لَكُمْ الْحِصْنَ. فَفَعَلُوا. فَإِنْ أَشْكَلَ الَّذِي أَعْطَى الْأَمَانَ، وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، فَإِنْ عُرِفَ صَاحِبُ الْأَمَانِ، عُمِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْتَمِلُ صِدْقُهُ، وَقَدْ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمُحَرَّمِ فِيمَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، فَحَرُمَ الْكُلُّ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةِ، أَوْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ، أَوْ اشْتَبَهَ زَانٍ مُحْصَنٌ بِرِجَالٍ مَعْصُومِينَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَحْرُمُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَتْلِ، فَإِنَّ اسْتِرْقَاقَ مَنْ لَا يَحِلُّ اسْتِرْقَاقُهُ مُحَرَّمٌ. وَالثَّانِي، يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَيَخْرُجُ صَاحِبُ الْأَمَانِ بِالْقُرْعَةِ، وَيَسْتَرِقُّ الْبَاقُونَ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَأَشْكَلَ، وَيُخَالِفُ الْقَتْلَ، فَإِنَّهُ إرَاقَةُ دَمٍ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الرِّقِّ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْقَتْلُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ دُونَ الِاسْتِرْقَاقِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ قَبْلَ فَتْحِهِ، أَشْرَفَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَشْكَلَ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الَّذِي أَسْلَمَ: يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ وَيُتْرَكُ لَهُ عُشْرُ قِيمَتِهِ. وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّ فِيهَا وَجْهَيْنِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. [فَصْل لَقِيَ عِلْجًا فَطَلَب مِنْهُ الْأَمَان] (7490) فَصْل قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ: كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَدُلَّك عَلَى كَذَا. فَبُعِثَ مَعَهُ قَوْمٌ لِيَدُلَّهُمْ، فَامْتَنَعَ مِنْ الدَّلَالَةِ، فَلَهُمْ ضَرْبُ عُنُقِهِ؛ لِأَنَّ أَمَانَهُ بِشَرْطٍ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا لَقِيَ عِلْجًا، فَطَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَلَا يُؤَمِّنُهُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ شَرُّهُ، وَإِنْ كَانُوا سَرِيَّةً، فَلَهُمْ أَمَانُهُ. يَعْنِي أَنَّ السَّرِيَّةَ لَا يَخَافُونَ مِنْ غَدْرِ الْعِلْجِ قَتْلَهُمْ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَقِيت السَّرِيَّةُ أَعْلَاجًا، فَادَّعَوْا أَنَّهُمْ جَاءُوا مُسْتَأْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّ حَمْلَهُمْ السِّلَاحَ يَدُلُّ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، قُبِلَ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ. [فَصْل دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ] (7491) وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِدُخُولِهِمْ إلَيْنَا تُجَّارًا بِغَيْرِ أَمَانٍ، لَمْ يُعْرَضْ لَهُمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا رَكِبَ الْقَوْمُ فِي الْبَحْرِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ فِيهِ تُجَّارٌ مُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ يُرِيدُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَعْرِضُوا لَهُمْ، وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِتِجَارَةٍ، بُويِعَ، وَلَمْ يُسْأَلْ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ تِجَارَةٌ، فَقَالَ: جِئْت مُسْتَأْمِنًا. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَكَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِيهِ، وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ فِي الْمَرْكَبِ إلَيْنَا، فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى، يَكُونُ فَيْئًا. [مَسْأَلَة دَخَلَ إلَى أَرْضِهِمْ مِنْ الْغُزَاةِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ] (7492) قَالَ: (وَمَنْ دَخَلَ إلَى أَرْضِهِمْ مِنْ الْغُزَاةِ فَارِسًا، فَنَفَقَ فَرَسُهُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَمِنْ دَخَلَ رَاجِلًا، فَأُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ وَهُوَ فَارِسٌ، فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَازِ، فَإِنْ أُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ وَهُوَ رَاجِلٌ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَإِنْ أُحْرِزَتْ وَهُوَ فَارِسٌ، فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ، سَوَاءٌ دَخَلَ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا. قَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَ يُعْطَى؛ إنْ كَانَ فَارِسًا فَفَارِسٌ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَرَاجِلٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَنَحْوَهُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الِاعْتِبَارُ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ دَخَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ وَإِنْ نَفَقَ فَرَسُهُ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَإِنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ وَإِنْ اسْتَفَادَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِنَا. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى يَعْرِضُهُمْ إذَا أدربوا، الْفَارِسُ فَارِسٌ، وَالرَّاجِلُ رَاجِلٌ. لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْحَرْبِ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ سَهْمُهُ بِذَهَابِ دَابَّتِهِ، أَوْ حُصُولِ دَابَّةٍ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ. وَلَنَا، أَنَّ الْفَرَسَ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ، فَاعْتُبِرَ وُجُودُهُ حَالَ الْقِتَالِ، فَيُسْهَمُ لَهُ مَعَ الْوُجُودِ فِيهِ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُ مَعَ الْعَدَمِ، كَالْآدَمِيِّ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ حَالَةَ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ حَالَةٌ تَقْتَضِي الْحَرْبَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَلِأَنَّهَا الْحَالُ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا الِاسْتِيلَاءُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِهَا، وَلَا نَدْرِي هَلْ يَظْفَرُ بِهِمْ أَوْ لَا؟ وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَلَوْ وُجِدَ مَدَدٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ، أَوْ انْفَلَتَ أَسِيرُ فَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ فَقَاتَلُوا، اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْإِحْرَازِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ دُونِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة سَهْم الْفَارِس وَالْفَرَس فِي الْغَنِيمَة] (7493) قَالَ: (وَيُعْطِي ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُقْسَمُ لِلْفَارِسِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَحُسَيْنِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَوَامِّ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْفَرَسِ سَهْمٌ وَاحِدٌ. لِمَا رَوَى مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو سَهْمٍ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى سَهْمٍ، كَالْآدَمِيِّ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ؛ سَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٌ لَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي رُهْمٍ وَأَخِيهِ، أَنَّهُمَا كَانَا فَارِسَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأُعْطِيَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ؛ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِمَا، وَسَهْمَيْنِ لَهُمَا. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْفَارِسَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا. وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَسْهَمَ هَكَذَا لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ سُهْمَانَ الْخَيْلِ مِمَّا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ، وَسَهْمًا لِلرَّاجِلِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ حَدِيثًا مَا أَشْعَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَمَّ بِانْتِقَاضِ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِانْتِقَاضٍ فَعَاقِبْهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْك. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا، وَأَنَّهُ أُجْمِعَ عَلَيْهِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ مُجَمِّعٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا، يَعْنِي صَاحِبَهُ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ حَدِيثُ أَبِي رُهْمٍ وَأَخِيهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَؤُلَاءِ أَحْفَظُ وَأَعْلَمُ، وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو رُهْمٍ وَأَخُوهُ مِمَّنْ شَهِدُوا وَأَخَذُوا السُّهْمَانَ، وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أُعْطُوا ذَلِكَ، فَلَا يُعَارَضُ ذَلِكَ بِخَبَرٍ شَاذٍّ تَعَيَّنَ غَلَطُهُ، أَوْ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ، وَقِيَاسُ الْفَرَسِ عَلَى الْآدَمِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا فِي الْحَرْبِ أَكْثَرُ، وَكُلْفَتَهَا أَعْظَمُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَهْمُهَا أَكْثَرَ. [مَسْأَلَة سَهْم الْفَارِس وَسَهْم الْفَرَس الْهَجِين] (7494) قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ هَجِينًا، فَيُعْطَى سَهْمًا لَهُ، وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ) الْهَجِينُ: الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ بِرْذَوْنَةٌ. والمقرف: الَّذِي أَبُوهُ بِرْذَوْنٌ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ، قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: وَمَا هِنْدٌ إلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ فَإِنْ وَلَدَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فبالحري ... وَإِنْ يَكُ أقراف فَمَا أَنْجَبَ الْفَحْلُ وَأَرَادَ الْخِرَقِيُّ بِالْهَجِينِ هَا هُنَا مَا عَدَا الْعَرَبِيَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ الْهَجِينُ الْبِرْذَوْنُ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي سُهْمَانِهَا، فَقَالَ الْخَلَّالُ: تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي سِهَامِ الْبِرْذَوْنِ، أَنَّهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْخِرَقِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَرَوَى عَنْهُ ثَلَاثَةٌ مُتَيَقِّظُونَ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ مِثْلُ سَهْمِ الْعَرَبِيِّ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ} [النحل: 8] . وَهَذِهِ مِنْ الْخَيْلِ، وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ فَرَسٍ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو سَهْمٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَرَبِيُّ وَغَيْرُهُ، كَالْآدَمِيِّ. وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَحْمَدَ. - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ الْبَرَاذِينَ إنْ أَدْرَكَتْ إدْرَاكَ الْعِرَابِ، أُسْهِمَ لَهَا مِثْلُ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَالْجُوزَجَانِيِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْخَيْلِ، وَقَدْ عَمِلَتْ عَمَلَ الْعِرَابِ، فَأُعْطِيَتْ سَهْمًا كَالْعَرَبِيِّ. وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً رَابِعَةً أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ، فَأَشْبَهَ الْبِغَالَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيمَا لَا يُقَارِبُ الْعَتَاقَ مِنْهَا؛ لِمَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: إنَّا وَجَدْنَا بِالْعِرَاقِ خَيْلًا عِرَاضًا دُكْنًا، فَمَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُهْمَانِهَا؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: تِلْكَ الْبَرَاذِينُ، فَمَا قَارَبَ الْعَتَاقَ مِنْهَا، فَاجْعَلْ لَهُ سَهْمًا وَاحِدًا، وَأَلْغِ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَقْمَرِ قَالَ: أَغَارَتْ الْخَيْلُ عَلَى الشَّامِ، فَأَدْرَكَتْ الْعِرَابُ مِنْ يَوْمِهَا، وَأَدْرَكَتْ الْكَوَادِنُ ضُحَى الْغَدِ، وَعَلَى الْخَيْلِ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، يُقَالُ لَهُ: الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي حُمَيْضَةَ، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ الَّذِي أَدْرَكَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ. فَفَضَّلَ الْخَيْلَ، فَقَالَ عُمَرُ: هَبِلَتْ الْوَادِعِيَّ أُمُّهُ، أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ. وَرَوَى مَكْحُولٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْفَرَسَ الْعَرَبِيَّ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الْهَجِينَ سَهْمًا. رَوَاهُ سَعِيدٌ أَيْضًا، وَلِأَنَّ نَفْعَ الْعَرَبِيِّ وَأَثَرَهُ فِي الْحَرْبِ أَفْضَلُ، فَيَكُونُ سَهْمُهُ أَرْجَحَ، كَتَفَاضُلِ مَنْ يُرْضَخُ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ مِنْ الْخَيْلِ. قُلْنَا: وَالْخَيْلُ فِي نَفْسِهَا تَتَفَاضَلُ، فَتَتَفَاضَلُ سُهْمَانُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ. قُلْنَا: هَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، لَا عُمُومَ لَهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِرْذَوْنٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْلِ الْعَرَبِ، وَلَا بَرَاذِينَ فِيهَا، وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا الْبَرَاذِينَ بِالْعِرَاقِ، أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهَا، وَأَنَّ عُمَرَ فَرَضَ لَهَا سَهْمًا وَاحِدًا، وَأَمْضَى مَا قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي حُمَيْضَةَ فِي تَفْضِيلِ الْعِرَابِ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَّى بَيْنَهُمَا، لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ، وَلَا خَالَفَهُ، وَلَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَسْكُتْ الصَّحَابَةُ عَنْ إنْكَارِهِ عَلَيْهِ، سِيَّمَا وَابْنُهُ هُوَ رَاوِي الْخَبَرِ، فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَضَّلَ الْعِرَابَ أَيْضًا، فَلَمْ يَذْكُرْهُ الرَّاوِي، لِغَلَبَةِ الْعِرَابِ، وَقِلَّةِ الْبَرَاذِينِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، خَبَرُ مَكْحُولٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَقِيَاسُهَا عَلَى الْآدَمِيِّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ مِنْهُمْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحَرْبِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْخَيْلِ عَلَى غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة لَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ] (7495) قَالَ: (وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ) . يَعْنِي إذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ خَيْلٌ، أُسْهِمَ لِفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرِ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَمْ يُسْهَمْ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا، كَالزَّائِدِ عَنْ الْفَرَسَيْنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ، وَكَانَ لَا يُسْهِمُ لِلرَّجُلِ فَوْقَ فَرَسَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ أَفْرَاسٍ. وَعَنْ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَنْ يُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمٌ، فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَمَا كَانَ فَوْقَ الْفَرَسَيْنِ فَهِيَ جَنَائِبُ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّ بِهِ إلَى الثَّانِي حَاجَةً، فَإِنَّ إدَامَةَ رُكُوبِ وَاحِدٍ تُضْعِفُهُ، وَتَمْنَعُ الْقِتَالَ عَلَيْهِ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَالْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الثَّالِثِ، فَإِنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. [مَسْأَلَة غَزَا عَلَى بَعِيرٍ هَلْ يُسْهَم لَهُ] (7496) قَالَ: (وَمَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ، قُسِمَ لَهُ وَلِبَعِيرِهِ سَهْمَانِ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْبَعِيرِ مَعَ إمْكَانِ الْغَزْوِ عَلَى فَرَسٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْبَعِيرِ سَهْمٌ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَجَزَ صَاحِبُهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، فَيُسْهَمُ لَهُ، كَالْفَرَسِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ تَجْوِيزَ الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ إنَّمَا أُبِيحَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا آلَاتُ الْجِهَادِ، فَأُبِيحَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْمُسَابَقَةِ بِهَا، تَحْرِيضًا عَلَى رِيَاضَتِهَا، وَتَعَلُّمِ الْإِتْقَانِ فِيهَا، وَلَا يُزَادُ عَلَى سَهْمِ الْبِرْذَوْنِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْوَقْعَةَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا هَذِهِ الْإِبِلُ الثَّقِيلَةُ، الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ رَاكِبُهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكِرُّ وَلَا تَفِرُّ، فَرَاكِبُهَا أَدْنَى حَالٍ مِنْ الرَّاجِلِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ بِحَالٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ مَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ. كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِغَيْرِ الْخَيْلِ مِنْ الْبَهَائِمِ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَلَمْ تَخْلُ غَزَاةٌ مِنْ غَزَوَاتِهِ مِنْ الْإِبِلِ، بَلْ هِيَ كَانَتْ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهَا، وَلَوْ أَسْهَمَ لَهَا لَنُقِلَ، وَكَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُلَفَائِهِ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ غَزَوَاتِهِمْ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيمَا عَلِمْنَاهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ، وَلَوْ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. (7497) فَصْلٌ: وَمَا عَدَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، مِنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفِيَلَةِ وَغَيْرِهَا، لَا يُسْهَمُ لَهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ عَظُمَ غَنَاؤُهَا، وَقَامَتْ مَقَامَ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسْهِمْ لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهَا، كَالْبَقَرِ. (7498) فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْخَيْلَ عِنْدَ دُخُولِ الْحَرْبِ، فَلَا يُدْخِلُ إلَّا شَدِيدًا، وَلَا يُدْخِلُهَا حَطِمًا، وَلَا ضَعِيفًا، وَلَا ضَرِعًا، وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا. فَإِنْ شَهِدَ أَحَدٌ الْوَقْعَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْهَمُ لَهُ؛ كَمَا يُسْهَمُ لِلْمَرِيضِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالرَّجُلِ الْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَتَعَيَّنُ مَنْعُ دُخُولِهِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْمُرْجِفِ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِتَالِ، فَإِنْ خَرَجَ بِمَرَضِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، كَالزَّمِنِ وَالْأَشَلِّ وَالْمَفْلُوجِ، فَلَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِمَرَضِهِ عَنْ ذَلِكَ، كَالْمَحْمُومِ، وَمَنْ بِهِ الصُّدَاعُ، فَإِنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَيُعِينُ بِرَأْيِهِ، وَتَكْثِيرِهِ، وَدُعَائِهِ. [مَسْأَلَة مَاتَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ] (7499) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي سَهْمِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَازِيَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ مَاتَ حَالَ الْقِتَالِ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَهْمُهُ لِوَرَثَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ مَاتَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قَسَمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إلَّا بِذَلِكَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنْ مَاتَ بَعْدَمَا يُدَرَّبُ قَاصِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ، أُسْهِمَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: إنْ حَضَرَ الْقِتَالَ أُسْهِمَ لَهُ، سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَلَا سَهْمَ لَهُ. وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ. وَلَنَا، أَنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ حِيَازَتِهَا، فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ مِلْكِهَا، وَثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهَا، فَقَدْ مَاتَ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فِي حَالٍ لَوْ قُسِمَتْ صَحَّتْ قِسْمَتُهَا، وَكَانَ لَهُ سَهْمُهُ مِنْهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَهُ فِيهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ إحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَحُقُوقِهِ. [مَسْأَلَة سَهْم الرَّاجِل] (7500) قَالَ: (وَيُعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلرَّاجِلِ سَهْمًا. وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا، فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ الرَّاجِلَ يَحْتَاجُ إلَى أَقَلَّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَارِسُ، وَغَنَاؤُهُ دُونَ غَنَائِهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ دُونَ سَهْمِهِ. (7501) فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْغَنِيمَةُ مِنْ فَتْحِ حِصْنٍ، أَوْ مِنْ مَدِينَةٍ، أَوْ مِنْ جَيْشٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَأَلْت الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ إسْهَامِ الْخَيْلِ مِنْ غَنَائِمِ الْحُصُونِ. فَقَالَ: كَانَتْ الْوُلَاةُ مِنْ قَبْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ، لَا يُسْهِمُونَ الْخَيْلَ مِنْ الْحُصُونِ، وَيَجْعَلُونَ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَجَّالَةً، حَتَّى وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِسْهَامِهَا مِنْ فَتْحِ الْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ؛ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. وَهِيَ حُصُونٌ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ رُبَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا، بِأَنْ يَنْزِلَ أَهْلُ الْحِصْنِ، فَيُقَاتِلُوا خَارِجًا مِنْهُ، وَيَلْزَمُ صَاحِبَهُ مُؤْنَةٌ لَهُ، فَيُقْسَمُ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ حِصْنٍ. [مَسْأَلَة وَيُرْضَخُ لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ مِنْ الْغَنِيمَة] (7502) قَالَ: (وَيُرْضَخُ لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ دُونَ السَّهْمِ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ، وَلَا تَقْدِيرَ لِمَا يُعْطُونَهُ، بَلْ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِنْ رَأَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَإِنْ رَأَى التَّفْضِيلَ فَضَّلَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ عَبِيدٌ، فَضَرَبَ لَهُمْ سِهَامَهُمْ. وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ، وَفِيهِ مِنْ الْغَنَاءِ مِثْلُ مَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ، كَالْحُرِّ. وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ: لَيْسَ لِلْعَبِيدِ سَهْمٌ وَلَا رَضْخٌ، إلَّا أَنْ يَجِيئُوا بِغَنِيمَةٍ، أَوْ يَكُونَ لَهُمْ غَنَاءٌ، فَيُرْضَخَ لَهُمْ. قَالَ: وَيُسْهَمُ لِلْمَرْأَةِ؛ لِمَا رَوَى جَرِيرُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ جَدَّتِهِ، أَنَّهَا حَضَرَتْ فَتْحَ خَيْبَرَ، قَالَتْ: فَأَسْهَمَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ. وَأَسْهَمَ أَبُو مُوسَى فِي غَزْوَةِ تُسْتَرَ لِنِسْوَةٍ مَعَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَسْهَمْنَ النِّسَاءُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ شِبْلِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ لِسَهْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِسَهْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أُعْطِيت سَهْلَةُ مِثْلَ سَهْمِي» . وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو بِالنِّسَاءِ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا سَهْمٌ، فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ يَحْضُرَانِ الْفَتْحَ، أَلَهُمَا مِنْ الْمَغْنَمِ شَيْءٌ؟ قَالَ يُحْذَيَانِ، وَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَيْسَ لَهُمَا سَهْمٌ، وَقَدْ يُرْضَخُ لَهُمَا. وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدَ، وَلِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُمَا، كَالصَّبِيِّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ؛ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْمُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةٌ، يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْخَوَرُ، فَلَا تَصْلُحُ لِلْقِتَالِ، وَلِهَذَا لَمْ تُقْتَلْ إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً. فَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي إسْهَامِ النِّسَاءِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمَّى الرَّضْخَ سَهْمًا، بِدَلِيلِ أَنَّ فِي حَدِيثِ حَشْرَجٍ، أَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا تَمْرًا. وَلَوْ كَانَ سَهْمًا، مَا اخْتَصَّ التَّمْرَ، وَلِأَنَّ خَيْبَرَ قُسِمَتْ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، نَفَرٍ مَعْدُودِينَ فِي غَيْرِ حَدِيثِهَا، وَلَمْ يُذْكَرْنَ مِنْهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُنَّ مِثْلَ سِهَامِ الرِّجَالِ مِنْ التَّمْرِ خَاصَّةً، أَوْ مِنْ الْمَتَاعِ دُونَ الْأَرْضِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلَةَ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا وَلَدَتْ، فَأَعْطَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا وَلِوَلَدِهَا، فَبَلَغَ رَضْخُهُمَا سَهْمَ رَجُلٍ، وَلِذَلِكَ عَجِبَ الرَّجُلُ الَّذِي قَالَ: أُعْطِيت سَهْلَةُ مِثْلَ سَهْمِي. وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْهُورًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَجِبَ مِنْهُ. (7503) فَصْلٌ: وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمَكَاتِبُ، كَالْقِنِّ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ. فَإِنْ عَتَقَ مِنْهُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ أُسْهِمَ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ إنْ قُتِلَ سَيِّدُ الْمُدَبَّرِ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَ، وَأُسْهِمَ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُرْضَخُ لَهُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ، وَيُسْهَمُ لَهُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ؛ فَإِذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، أُعْطِيَ نِصْفَ سَهْمٍ، وَرُضِخَ لَهُ نِصْفُ الرَّضْخِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ تَبْعِيضُهُ، يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْمِيرَاثِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقِتَالِ، فَأَشْبَهَ الرَّقِيقَ. (7504) فَصْلٌ: وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ يُرْضَخُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ رَجُلٌ يَقْسِمُ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْجِهَادِ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ لَهُ نِصْفُ سَهْمٍ وَنِصْفُ الرَّضْخِ كَالْمِيرَاثِ. فَإِنْ انْكَشَفَ حَالِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَجُلٌ، أُتِمَّ لَهُ سَهْمُ رَجُلٍ، سَوَاءٌ انْكَشَفَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلسَّهْمِ، وَأَنَّهُ أُعْطِيَ دُونَ حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُعْطِيَ بَعْضُ الرِّجَالِ دُونَ حَقِّهِ غَلَطًا. (7505) فَصْلٌ: وَالصَّبِيُّ يُرْضَخُ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، فِي الصَّبِيِّ يَغْزُو بِهِ، لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لَهُ إذَا قَاتَلَ، وَأَطَاقَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَدْ بَلَغَ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ذَكَرٌ مُقَاتِلٌ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَالرَّجُلِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُسْهَمُ لَهُ. وَقَالَ: أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصِّبْيَانِ بِخَيْبَرَ، وَأَسْهَمَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِكُلِّ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي، قَالَتْ: كُنْت مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَكَانَ يُسْهِمُ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، لِمَا فِي بُطُونِهِنَّ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ يُحْذَوْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا حَضَرُوا الْغَزْوَ، فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ تَمِيمَ بْنَ قَرْعٍ الْمَهْدِيَّ، كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ فَتَحُوا الْإِسْكَنْدَرِيَّة، فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ، قَالَ: فَلَمْ يَقْسِمْ لِي عَمْرٌو مِنْ الْفَيْءِ شَيْئًا، وَقَالَ: غُلَامٌ لَمْ يَحْتَلِمْ. حَتَّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَ قُومِي وَبَيْنَ أُنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ ثَائِرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: فِيكُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْأَلُوهُمْ. فَسَأَلُوا أَبَا نَضْرَةَ الْغِفَارِيَّ، وَعُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، فَقَالَا: اُنْظُرُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ، فَاقْسِمُوا لَهُ، فَنَظَرَ إلَيَّ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَإِذَا أَنَا قَدْ أَنْبَتُّ، فَقَسَمَ لِي. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ هَذَا مِنْ مَشَاهِيرِ حَدِيثِ مِصْرَ وَجَيِّدِهِ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ كَالْعَبْدِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ لِصَبِيٍّ، بَلْ كَانَ لَا يُجِيزُهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْقِتَالِ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي، وَمَا ذَكَرُوهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمَّى الرَّضْخَ سَهْمًا، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْل انْفَرَدَ بِالْغَنِيمَةِ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ] (7506) فَإِنْ انْفَرَدَ بِالْغَنِيمَةِ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ، مِثْلُ عَبِيدٍ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَغَنِمُوا، أَوْ صِبْيَانٍ، أَوْ عَبِيدٍ وَصِبْيَانٍ، أُخِذَ خُمْسُهُ، وَمَا بَقِيَ لَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ؛ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا، فَأَشْبَهُوا الرِّجَالَ الْأَحْرَارَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ، فَلَا تَجِبُ مَعَ الِانْفِرَادِ، قِيَاسًا لِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ حُرٌّ، أُعْطِي سَهْمًا، وَفُضِّلَ عَلَيْهِمْ، بِقَدْرِ مَا يُفَضَّلُ الْأَحْرَارُ عَلَى الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ مَنْ بَقِيَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّفْضِيلِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. [مَسْأَلَةٌ يُسْهَمُ لِلْكَافِرِ إذَا غَزَا مَعَنَا] (7507) قَالَ: (وَيُسْهَمُ لِلْكَافِرِ، إذَا غَزَا مَعَنَا) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْكَافِرِ يَغْزُو مَعَ الْإِمَامِ بِإِذْنِهِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ كَالْمُسْلِمِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الثُّغُورِ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِالصَّوَائِفِ وَالْبُعُوثِ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُسْهَمُ لَهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِهَادِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْعَبْدِ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ، كَالْعَبْدِ. وَلَنَا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَانَ بِنَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ فِي حَرْبِهِ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَرُوِيَ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ، وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، فَأَسْهَمَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ نَقْصٌ فِي الدِّينِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ، كَالْفِسْقِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْعَبْدَ؛ فَإِنَّ نَقْصَهُ فِي دُنْيَاهُ وَأَحْكَامِهِ. وَإِنْ غَزَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَلَا سَهْمَ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الدِّينِ، فَهُوَ كَالْمُرْجِفِ، وَشَرٌّ مِنْهُ. وَإِنْ غَزَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فَغَنِمُوا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَتُهُمْ لَهُمْ، لَا خُمُسَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا اكْتِسَابٌ مُبَاحٌ، لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى وَجْهِ الْجِهَادِ، فَكَانَ لَهُمْ، لَا خُمُسَ فِيهِ، كَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ خُمُسُهُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةُ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَشْبَهَ غَنِيمَةَ الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ لَا يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ فِي الْحَرْب] (7508) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَخَبَرِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِ حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِمْ، لَمْ تُجْزِئْهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ؛ لِأَنَّنَا إذَا مَنَعْنَا الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ الْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَدْرٍ، حَتَّى إذَا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ، أَدْرَكَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْت لِأَتْبَعْك، وَأُصِيبَ مَعَك. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْطَلِقْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوَةً، أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قُومِي، وَلَمْ نُسْلِمْ، فَقُلْنَا: إنَّا لَنَسْتَحْيِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ. قَالَ: «فَأَسْلَمْتُمَا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ» . قَالَ: فَأَسْلَمْنَا، وَشَهِدْنَا مَعَهُ. وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَشْبَهَ الْمُخَذِّلَ وَالْمُرْجِفَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاَلَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِمْ غَيْرُ ثَابِتٍ. [فَصْل لَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلْفَارِسِ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا لِلرَّاجِلِ سَهْمَ] (7509) وَلَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلْفَارِسِ سَهْمَ فَارِسٍ، وَلَا لِلرَّاجِلِ سَهْمَ رَاجِلٍ، كَمَا لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ. وَيَفْعَلُ الْإِمَامُ بَيْنَ أَهْلِ الرَّضْخِ مَا يَرَى، فَيُفَضِّلُ الْعَبْدَ الْمُقَاتِلَ وَذَا الْبَأْسِ، عَلَى مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ، وَيُفَضِّلُ الْمَرْأَةَ الْمُقَاتِلَةَ، وَاَلَّتِي تَسْقِي الْمَاءَ، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَنْفَعُ، عَلَى غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا سَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمْ، كَمَا سَوَّيْتُمْ بَيْنَ أَهْلِ السُّهْمَانِ؟ قُلْنَا: السَّهْمُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَوْكُولٍ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ، كَالْحَدِّ وَدِيَةِ الْحُرِّ، وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، مَرْدُودٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَاخْتَلَفَ، كَالتَّعْزِيرِ، وَقِيمَةِ الْعَبْدِ. (7510) فَصْلٌ: وَفِي الرَّضْخِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ بِالْمُعَاوَنَةِ فِي تَحْصِيلِ الْغَنِيمَةِ، فَأَشْبَهَ أُجْرَةَ النَّقَّالِينَ وَالْحَافِظِينَ لَهَا. وَالثَّانِي، هُوَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ، فَأَشْبَهَ سِهَامَ الْغَانِمِينَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَهَذَيْنِ. [فَصْل أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ] (7511) أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بِالْأَسْلَابِ، فَيَدْفَعُهَا إلَى أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُعَيَّنُ، ثُمَّ بِمُؤْنَةِ الْغَنِيمَةِ؛ مِنْ أُجْرَةِ النَّقَّالِ وَالْحَمَّالِ وَالْحَافِظِ وَالْمُخَزِّنِ، ثُمَّ بِالرَّضْخِ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ بِالْخُمُسِ، ثُمَّ بِالْأَنْفَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَقِيَّةَ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا قِسْمَةَ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ عَلَى قِسْمَةِ الْخُمُسِ، لِسِتَّةِ مَعَانٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ أَهْلَهَا حَاضِرُونَ، وَأَهْلُ الْخُمْسِ غَائِبُونَ. الثَّانِي؛ أَنَّ رُجُوعَ الْغَانِمِينَ إلَى أَوْطَانِهِمْ يَقِفُ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، وَأَهْلُ الْخُمُسِ فِي أَوْطَانِهِمْ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِقَسْمِ نَصِيبِهِمْ لِيَعُودُوا إلَى أَوْطَانِهِمْ أَوْلَى. الثَّالِثُ، أَنَّ الْغَنِيمَةَ حَصَلَتْ بِتَحْصِيلِ الْغَانِمِينَ وَتَعَبِهِمْ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَقَّهَا بِعِوَضٍ، وَأَهْلُ الْخَمْسِ بِخِلَافِهِ، فَكَانَ أَهْلُ الْغَنِيمَةِ أَوْلَى. الرَّابِعُ، أَنَّهُ إذَا قَسَمَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، أَخَذَ كُلُّ إنْسَانٍ نَصِيبَهُ، فَحَمَلَهُ، وَاهْتَمَّ بِهِ، وَكَفَى الْإِمَامَ مُؤْنَتَهُ، وَالْخُمُسُ إذَا قُسِمَ لَيْسَ لَهُ مَنْ يَكْفِي الْإِمَامَ مُؤْنَتَهُ، فَلَا تَحْصُلُ الْفَائِدَةُ بِقِسْمَتِهِ، بَلْ كَانَ يَحْمِلُهُ مُجْتَمِعًا، فَصَارَ يَحْمِلُهُ مُتَفَرِّقًا، فَكَانَ تَأْخِيرُ قِسْمَتِهِ أَوْلَى. الْخَامِسُ، أَنَّ الْخُمُسَ لَا يُمْكِنُ قَسْمُهُ بَيْنَ أَهْلِهِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مَعَ غَيْبَتِهِمْ. السَّادِسُ؛ أَنَّ الْغَانِمِينَ يَنْتَفِعُونَ بِسِهَامِهِمْ، وَيَتَمَكَّنُونَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا لِحُضُورِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْخَمْسِ. [مَسْأَلَة غَزَا الْعَبْدُ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ] (7512) قَالَ: (وَإِذَا غَزَا الْعَبْدُ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ، قُسِمَ لِلْفَرَسِ، فَكَانَ لِسَيِّدِهِ، وَيُرْضَخُ لِلْعَبْدِ) . أَمَّا الرَّضْخُ لِلْعَبْدِ، فَكَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَرَسُ الَّتِي تَحْتَهُ، فَيَسْتَحِقُّ مَالِكُهَا سَهْمَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَرَسَانِ أَوْ أَكْثَرُ، أُسْهِمَ لِفَرَسَيْنِ، وَيُرْضَخُ لِلْعَبْدِ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَ مُخَذِّلٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَرَسٌ حَضَرَ الْوَقْعَةَ، وَقُوتِلَ عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ، كَمَا لَوْ كَانَ السَّيِّدُ رَاكِبَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ وَرَضَخَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ وَمَالِكُ فَرَسِهِ، وَسَوَاءٌ حَضَرَ السَّيِّدُ الْقِتَالَ أَوْ غَابَ عَنْهُ. وَفَارَقَ فَرَسَ الْمُخَذِّلِ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ لَهُ فَإِذًا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِحُضُورِهِ، فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِحُضُورِ فَرَسِهِ أَوْلَى. [فَصْل غَزَا الصَّبِيُّ عَلَى فَرَسٍ أَوْ الْمَرْأَةُ أَوْ الْكَافِرُ] (7513) وَإِنْ غَزَا الصَّبِيُّ عَلَى فَرَسٍ، أَوْ الْمَرْأَةُ أَوْ الْكَافِرُ إذَا قُلْنَا: لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الرَّضْخَ. لَمْ يُسْهَمْ لِلْفَرَسِ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلْفَارِسِ سَهْمَ فَارِسٍ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ وَلِفَرَسِهِ مَا لَا يَبْلُغُ سَهْمَ الْفَارِسِ. وَلِأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ بِحُضُورِهِ، فَبِفَرَسِهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْفَرَسَ لِغَيْرِهِ. [فَصْل غَزَا الْمُرْجِفُ أَوْ الْمُخَذِّلُ عَلَى فَرَسٍ] (7514) وَإِذَا غَزَا الْمُرْجِفُ أَوْ الْمُخَذِّلُ عَلَى فَرَسٍ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلَا لِلْفَرَسِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ غَزَا الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، لَمْ يُرْضَخْ لَهُ، لِأَنَّهُ عَاصٍ بِغَزْوِهِ، فَهُوَ كَالْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، وَإِنْ غَزَا الرَّجُلُ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهِ، اسْتَحَقَّ السَّهْمَ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بِحُضُورِ الصَّفِّ، فَلَا يَبْقَى عَاصِيًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. [فَصْل اسْتَعَارَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ] (7515) وَمَنْ اسْتَعَارَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَسَهْمُ الْفَرَسِ لِلْمُسْتَعِيرِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْغَزْوِ عَلَيْهِ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهِ، فَأَشْبَهَ وَلَدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا سَهْمَ لِلْفَرَسِ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمًا، فَلَمْ يَسْتَحِقُّ لِلْفَرَسِ شَيْئًا، كَالْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ فَرَسٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ سَهْمًا، وَهُوَ مَالِكٌ لِنَفْعِهِ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَرَسِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ، وَلِأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ مُسْتَحَقٌّ بِمَنْفَعَتِهِ، وَهِيَ لِلْمُسْتَعِيرِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فِيهَا، وَفَارَقَ النَّمَاءَ وَالْوَلَدَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ. فَأَمَّا إنْ اسْتَعَارَهُ لِغَيْرِ الْغَزْوِ، ثُمَّ غَزَا عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. [فَصْل غَصَبَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ] (7516) وَإِنْ غَصَبَ فَرَسًا، فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، فَسَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَهْمُ الْفَرَسِ لِلْغَاصِبِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ، فَكَانَ الْحَاصِلُ بِهَا لِمُسْتَعْمِلِهَا كُلِّهِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْجَلًا فَاحْتَشَّ بِهَا، أَوْ سَيْفًا فَقَاتَلَ بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَرَسٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ صَاحِبِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ سَهْمًا كَانَ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَمَا كَانَ لِلْفَرَسِ كَانَ لِمَالِكِهِ، وَفَارَقَ مَا يَحْتَشُّ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّهْمَ مُسْتَحَقٌّ بِنَفْعِ الْفَرَسِ، وَنَفْعُهُ لِمَالِكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ لَهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ [فَصْل اسْتَأْجَرَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ] (7517) وَمَنْ اسْتَأْجَرَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ، فَغَزَا عَلَيْهِ، فَسَهْمُ الْفَرَسِ لَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِنَفْعِهِ اسْتِحْقَاقًا لَازِمًا، فَكَانَ سَهْمُهُ لَهُ، كَمَالِكِهِ. (7518) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ لَا شَيْءَ لَهُ كَالْمُرْجِفِ وَالْمُخَذِّلِ، أَوْ مِمَّنْ يُرْضَخُ لَهُ كَالصَّبِيِّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ فَرَسِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ غَصَبَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ فَرَسِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ يَتْبَعُ الْفَارِسَ فِي حُكْمِهِ، فَيَتْبَعُهُ إذَا كَانَ مَغْصُوبًا، قِيَاسًا عَلَى فَرَسِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ رَاكِبِهِ، وَالنَّقْصَ فِيهِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِهِ، وَبِمَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَفَرَسُهُ تَابِعَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لَهَا فَهُوَ لَهُ، وَالْفَرَسُ هَا هُنَا لِغَيْرِهِ، وَسَهْمُهَا لِمَالِكِهَا، فَلَا يَنْقُصُ سَهْمُهَا بِنَقْصِ سَهْمِهِ، كَمَا لَوْ قَاتَلَ الْعَبْدُ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ. وَلَوْ قَاتَلَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ، خُرِّجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا إذَا غَصَبَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ. [فَصْل لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْض الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ] (7519) وَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ، إلَّا أَنْ يُنَفِّلَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ نَفْلًا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَنْفَالِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ. وَلِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْوِيَةِ، فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ، كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ. (7520) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. جَازَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلِي الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي السَّرِيَّةِ تَخْرُجُ، فَيَقُولُ الْوَالِي: مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِئْ بِشَيْءٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ: الْأَنْفَالُ إلَى الْإِمَامِ، مَا فَعَلَ مِنْ شَيْءٍ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: " مَنْ أَخَذَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ ". وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا غَزَوْا، وَرَضُوا بِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَقْضِي إلَى اشْتِغَالِهِمْ بِالنَّهْبِ عَنْ الْقِتَالِ، وَظَفَرِ الْعَدُوِّ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الِاغْتِنَامَ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّسَاوِي، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بُقُولِ الْإِمَامِ، كَسَائِرِ الِاكْتِسَابِ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ بَدْرٍ، فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] [مَسْأَلَةٌ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ حَضَرَ الْمَوْقِعَةَ] (7521) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا أُحْرِزَتْ الْغَنِيمَةُ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا لِمَنْ جَاءَهُمْ مَدَدًا، أَوْ هَرَبَ مِنْ أَسْرٍ حَظٌّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ حَضَرَ الْمَوْقِعَةَ، فَمَنْ تَجَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدٍ يَلْحَقُ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَسْرٍ يَنْفَلِتُ مِنْ الْكُفَّارِ، فَيَلْحَقُ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَافِرٍ يُسْلِمُ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَدَدِ: إنْ لَحِقَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، شَارَكَهُمْ؛ لِأَنَّ تَمَامَ مِلْكِهَا بِتَمَامِ الِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ الْإِحْرَازُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قِسْمَتُهَا، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ مِلْكِهَا، فَاسْتَحَلَّ مِنْهَا، كَمَا لَوْ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ. وَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ الْعَسْكَرِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى سَعْدٍ، أَسْهِمْ لِمَنْ أَتَاك قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّأَ قَتْلَى فَارِسَ، وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَصْحَابَهُ، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ، بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا، فَقَالَ أَبَانُ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْلِسْ يَا أَبَانُ. وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ، فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ عُمَرُ: إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ فِي غَزْوَةِ أَرْمِينِيَةَ، وَلِأَنَّهُ مَدَدٌ لَحِقَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَاءَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَ إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا، وَقَدْ حَصَلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْمَدَدِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مِلْكَهَا بِإِحْرَازِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْجَيْشُ قَبْلَ الْمَدَدِ، وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلٌ يَرْوِيه الْمُجَالِدُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ، ثُمَّ هُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَلَا نَحْنُ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ مِنَّا عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ؟ (7522) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْأَسِيرِ يَهْرَبُ إلَى الْمُسْلِمِينَ حُكْمُ الْمَدَدِ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْهَمُ لَهُ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِلْقِتَالِ بِخِلَافِ الْمَدَدِ. وَلَنَا، أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ إذَا قَاتَلَ اسْتَحَقَّ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، كَالْمَدَدِ، وَسَائِرِ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ. (7523) فَصْلٌ: وَإِنْ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ، وَقَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ، أَوْ جَاءَهُمْ أَسِيرٌ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ قَبْلَ إحْرَازِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: تُمْلَكُ الْغَنِيمَةُ بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ قَبْلَ حِيَازَتِهَا. فَعَلَى هَذَا لَا يُسْهَمُ لَهُمْ. وَإِنْ حَازُوا الْغَنِيمَةَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَهُمْ، فَأَدْرَكَهُمْ الْمَدَدُ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمَدَدِ. فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً، فَلَحِقَهُمْ الْعَدُوُّ وَجَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَدَدٌ، فَقَاتَلُوا الْعَدُوَّ مَعَهُمْ حَتَّى سَلَّمُوا الْغَنِيمَةَ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَاتَلُوا عَنْ أَصْحَابِهِمْ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا عَنْ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ قَدْ صَارَتْ فِي أَيْدِيهمْ وَحَوَوْهَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ أَهْلَ الْمِصِّيصَةِ غَنِمُوا ثُمَّ اسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ الْعَدُوُّ، فَجَاءَ أَهْلُ طَرَسُوسَ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى اسْتَنْقَذُوهُ؟ فَقَالَ: أَحَبُّ إلَى أَنْ يَصْطَلِحُوا،. أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ أَحْرَزُوا الْغَنِيمَةَ وَمَلَكُوهَا بِحِيَازَتِهِمْ، فَكَانَتْ لَهُمْ دُونَ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُمْ. أَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّمَا حَصَلَتْ الْغَنِيمَةُ بِقِتَالِ الَّذِينَ اسْتَنْقَذُوهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهَا، لِأَنَّ الْإِحْرَازَ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ بِأَخْذِ الْكُفَّارِ لَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ مَلَكُوهَا بِالْحِيَازَةِ الْأَوْلَى، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمْ بِأَخْذِ الْكُفَّارِ لَهَا مِنْهُمْ، فَلِهَذَا أَحَبَّ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَيْهَا. [مَسْأَلَة بَعَثَهُ الْأَمِيرُ لِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ فَلَمْ يَحْضُرْ الْغَنِيمَةَ] (7524) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ بَعَثَهُ الْأَمِيرُ لِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، فَلَمْ يَحْضُرْ الْغَنِيمَةَ أَسْهَمَ لَهُ. هَذَا مِثْلُ الرَّسُولِ وَالدَّلِيلِ وَالطَّلِيعَةِ وَالْجَاسُوسِ وَأَشْبَاهِهِمْ، يُبْعَثُونَ لِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الْجَيْشَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَرَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ، قَالُوا: وَقَدْ تَخَلَّفَ عُثْمَانُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَجْرَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمًا مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: «إنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَإِنِّي أُبَايِعُ لَهُ. فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَهْمِهِ، وَلَمْ يَضْرِبْ لِأَحَدٍ غَابَ غَيْرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: إنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، لِأَنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لَك أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِأَنَّهُ فِي مَصْلَحَتِهِمْ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمًا مِنْ غَنِيمَتِهِمْ، كَالسَّرِيَّةِ مَعَ الْجَيْشِ، وَالْجَيْشِ مَعَ السَّرِيَّةِ. [فَصْل قَوْمٍ خَلَّفَهُمْ الْأَمِيرُ فِي بِلَاد الْعَدُوِّ وَغَزَا وَغَنِمَ وَلَمْ يَمُرّ بِهِمْ] (7525) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْمٍ خَلَّفَهُمْ الْأَمِيرُ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَغَزَا، وَغَنِمَ، وَلَمْ يَمُرَّ بِهِمْ، فَرَجَعُوا، هَلْ يُسْهِمُ لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ يُسْهِمُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَمِيرَ خَلَّفَهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ نَادَى الْأَمِيرُ: مَنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلْيَتَخَلَّفْ. فَتَخَلَّفَ قَوْمٌ فَصَارُوا إلَى لُؤْلُؤَةٍ، وَفِيهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَقَامُوا حَتَّى فَصَلُوا، فَقَالَ: إذَا كَانُوا قَدْ الْتَجَئُوا إلَى مَأْمَنٍ لَهُمْ، لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَلَوْ تَخَلَّفُوا وَأَقَامُوا فِي مَوْضِعِ خَوْفٍ أَسْهَمَ لَهُمْ. وَقَالَ فِي قَوْمٍ خَلَّفَهُمْ الْأَمِيرُ، وَأَغَارَ فِي جِلْدِ الْخَيْلِ، فَقَالَ: إنْ أَقَامُوا فِي بَلَدِ الْعَدُوِّ حَتَّى رَجَعَ، أَسْهَمَ لَهُمْ، وَإِنْ رَجَعُوا حَتَّى صَارُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ اعْتَلَّ رَجُلٌ، أَوْ اعْتَلَّتْ دَابَّتُهُ وَقَدْ أدرب، فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ: أَقِمْ أُسْهِمْ لَك، أَوْ انْصَرِفْ إلَى أَهْلِك أُسْهِمْ لَك. فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: هَذَا يَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِهِ، فَكَيْفَ يُسْهِمُ لَهُ،. [فَصْلٌ قَسْم الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7526) فَصْلٌ: يَجُوزُ قَسْمُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تَنْقَسِمُ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إلَّا بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ قُسِمَتْ أَسَاءَ قَاسِمُهَا، وَجَازَتْ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، فَإِذَا حَكَمَ الْإِمَامُ فِيهَا بِمَا يُوَافِقُ قَوْلَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، نَفَذَ حُكْمُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ. قَالَ: قُلْت لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتْبَعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَقْفِلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غَنِيمَةً إلَّا خَمَسَهُ وَقَسَمَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْفِلَ، مِنْ ذَلِكَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ. وَلِأَنَّ كُلَّ دَارٍ صَحَّتْ الْقِسْمَةُ فِيهَا جَازَتْ، كَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ، فَصَحَّتْ قِسْمَتُهَا، كَمَا لَوْ أُحْرِزَتْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ، وَقَدْ وَجَدَ، فَإِنَّنَا أَثْبَتَنَا أَيْدِيَنَا عَلَيْهَا حَقِيقَةً، وَقَهَرْنَاهُمْ، وَنَفَيْنَاهُمْ عَنْهَا، وَالِاسْتِيلَاءُ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْتَوْلِي، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ، كَمَا فِي الْمُبَاحَاتِ. الثَّانِي، أَنَّ مُلْكَ الْكُفَّارِ قَدْ زَالَ عَنْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُمْ فِي الْعَبِيدِ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمْ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، إذْ لَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُبَاحَةً، عَلِمَ أَنَّ مِلْكَهُمْ زَالَ إلَى الْغَانِمِينَ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ، وَلَحِقَ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، صَارَ حُرًّا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْكَافِرِ، وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لِمَنْ قَهَرَهُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ. [مَسْأَلَةٌ التَّفْرِيقُ بَيْن الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي قِسْمَة الْغَنَائِم] (7527) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا سُبُوا، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، وَلَا بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا الطِّفْلِ غَيْرُ جَائِزٍ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثِ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» . قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا وَإِنْ رَضِيَتْ. وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَرْضَى بِمَا فِيهِ ضَرَرُهَا، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ قَلْبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَنْدَمُ. لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ مِنْهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَأَشْبَهَ الْأُمَّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَلَدِ كَبِيرًا بَالِغًا أَوْ طِفْلًا. وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْوَالِدَةَ تَتَضَرَّرُ بِمُفَارَقَةِ وَلَدِهَا الْكَبِيرِ، وَلِهَذَا حَرُمَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِدُونِ إذْنِهِمَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَخْتَصُّ تَحْرِيمُ التَّفْرِيقِ بِالصَّغِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ أَتَى بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبَهَا لَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُهْدِيَتْ إلَيْهِ مَارِيَةُ وَأُخْتُهَا سِيرِينُ، فَأَمْسَكَ مَارِيَةَ، وَوَهَبَ سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَلِأَنَّ الْأَحْرَارَ يَتَفَرَّقُونَ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوَّجُ ابْنَتُهَا، فَالْعَبِيدُ أَوْلَى. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَخَصَّصُ عُمُومُ حَدِيثِ النَّهْيِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكِبَرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ التَّفْرِيقُ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا إذَا بَلَغَ الْوَلَدُ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا أَثْغَرَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ: إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أُمِّهِ، وَنَفَعَ نَفْسَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إذَا صَارَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إذَا كَانَ يَلْبَسُ وَحْدَهُ، وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْتَغْنِي عَنْ أُمِّهِ، وَكَذَلِكَ خُيِّرَ الْغُلَامُ بَيْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ إذَا صَارَ كَذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِتَخْيِيرِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ وَقِسْمَتُهُ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا. فَقِيلَ: إلَى مَتَى؟ قَالَ: حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ، وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ» وَلِأَنَّ مَا دُونَ الْبُلُوغِ مُوَلَّى عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ. (7528) فَصْلٌ: وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، فِي " سُنَنِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْبَيْعَ. وَالْأَصْلُ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُ لِمَا يَلْحَقُ الْمَبِيعَ مِنْ الضَّرَرِ، فَهُوَ لِمَعْنًى فِيهِ. [مَسْأَلَة وَالْجَدُّ وَالْجَدَّة وَالْأَب سَوَاء فِي تَقْسِيم الْغَنَائِم] (7529) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْجَدُّ فِي ذَلِكَ كَالْأَبِ، وَالْجَدَّةُ فِيهِ كَالْأُمِّ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ، فِي تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَلَدِ وَلَدِهِمَا، كَالْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَالْجَدَّةَ أُمٌّ، وَلِذَلِكَ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ، فَقَامَا مَقَامَهُمَا فِي تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ لِلْجَمِيعِ وِلَادَةً وَمَحْرَمِيَّةً، فَاسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ، كَاسْتِوَائِهِمْ فِي مَنْعِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. [مَسْأَلَةٌ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ فِي تَقْسِيم الْغَنَائِم] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَخَوَيْنِ، وَلَا أُخْتَيْنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ، وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةٌ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَحْرُمْ التَّفْرِيقُ، كَقَرَابَةِ ابْنِ الْعَمِّ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَهَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْت أَحَدَهُمَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا فَعَلَ غُلَامُك؟ فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: رُدَّهُ، رُدَّهُ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَلَا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فِي الْبَيْعِ. لِأَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَلَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، كَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. [فَصْلٌ التَّفْرِيقُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ فِي تَقْسِيم الْغَنَائِم] (7531) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالْعَمَّةِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا، وَالْخَالَةِ مَعَ ابْنِ أُخْتِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقِيَاسِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ الْبَيْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ، وَلِذَلِكَ يَحْجُبُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ الْمِيرَاثِ، فَيَبْقَى فِي مَنْ عَدَاهُمْ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ. فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مَحْرَمٌ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ؛ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِمْ، وَامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَوَلَدِهَا وَالْأُخْتِ وَأُخْتِهَا؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ قَرَابَةَ الرَّضَاعِ لَا تُوجِبُ عِتْقَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا نَفَقَةً، وَلَا مِيرَاثًا، فَلَمْ تَمْنَعْ التَّفْرِيقَ، كَالصَّدَاقَةِ. (7532) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَغْنَمِ مَنْ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ قَدْرُهُمْ حِصَّةَ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ، دُفِعُوا إلَى وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ فَضْلٌ، فَرَضِيَ بِرَدِّ قِيمَةِ الْفَضْلِ، جَازَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، بِيعُوا جُمْلَةً، وَقُسِمَ ثَمَنُهُمْ، أَوْ يَجْعَلُوا فِي الْخُمُسِ. وَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْعِتْقِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا تَفْرِقَةَ فِيهِ فِي الْمَكَانِ، وَالْفِدَاءُ تَخْلِيصٌ، فَهُوَ كَالْعِتْقِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى مِنْ الْمَغْنَمِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَحَسِبُوا عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ] (7533) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، فَتَبَيَّنَ أَنْ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ، رَدَّ إلَى الْمُقَسِّمِ الْفَضْلَ الَّذِي فِيهِ بِالتَّفْرِيقِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْ الْمَغْنَمِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرِ، وَحَسِبُوا عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أَقَارِبُ، يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ، فَبَانَ أَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْفَضْلِ الَّذِي فِيهِمْ عَلَى الْمَغْنَمِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُمْ تَزِيدُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اشْتَرَى اثْنَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى، لَا يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ، وَلَا بَيْعُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، فَكَانَتْ قِيمَتُهُمَا قَلِيلَةً لِذَلِكَ، فَإِنْ بَانَ أَنَّ إحْدَاهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الْأُخْرَى، أُبِيحَ لَهُ وَطْؤُهُمَا، وَبَيْعُ إحْدَاهُمَا، فَتَكْثُرُ قِيمَتُهُمَا، فَيَجِبُ رَدُّ الْفَضْلِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا فَوَجَدَ مَعَهُمَا حُلِيًّا أَوْ ذَهَبًا فَتُكْثِرُ قِيمَتهمَا، وَكَمَا لَوْ أَخَذَ دَرَاهِمَ، فَبَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا حُسِبَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة سُبِيَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ سُبِيَ مِنْ أَطْفَالِهِمْ مُنْفَرِدًا، أَوْ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَمَنْ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ، فَهُوَ عَلَى دِينِهِمَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا سُبِيَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ، صَارَ رَقِيقًا، وَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يُسْبَى مُنْفَرِدًا عَنْ أَبَوَيْهِ، فَهَذَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الدِّينَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ تَبَعًا، وَقَدْ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ، لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُمَا، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ دَارِهِمَا، وَمَصِيرِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِسَابِيهِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ تَابِعًا لَهُ فِي دِينِهِ. وَالثَّانِي، أَنْ يُسْبَى مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَكُونُ تَابِعًا لِأَبِيهِ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، كَمَا لَوْ سُبِيَ مَعَهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ سُبِيَ مَعَ أَبِيهِ يَتْبَعُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي الدِّينِ، كَمَا يَتْبَعُهُ فِي النَّسَبِ، وَإِنْ سُبِيَ مَعَ أُمِّهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُهَا فِي النَّسَبِ، فَكَذَلِكَ فِي الدِّينِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» . فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَتْبَعُ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى عُلِّقَ بِشَيْئَيْنِ، لَا يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّهُ يَتْبَعُ سَابِيه مُنْفَرِدًا، فَيَتْبَعُهُ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ غُلِّبَ حُكْمُ إسْلَامِهِ مُنْفَرِدًا غُلِّبَ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، كَالْمُسْلِمِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. الثَّالِثُ، أَنْ يُسْبَى مَعَ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى دِينِهِمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ السَّابِيَ أَحَقُّ بِهِ، لِكَوْنِهِ مَلَكَهُ بِالسَّبْيِ، وَزَالَتْ وِلَايَةُ أَبَوَيْهِ عَنْهُ، وَانْقَطَعَ مِيرَاثُهُمَا مِنْهُ وَمِيرَاثُهُ مِنْهُمَا، فَكَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمَا. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ.» وَهُمَا مَعَهُ، وَمِلْكُ السَّابِي لَهُ لَا يَمْنَعُ اتِّبَاعَهُ لِأَبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ الْكَافِرَيْنِ. [فَصْلٌ سُبِيَ الْمُتَزَوِّجُ مِنْ الْكُفَّارِ] (7535) فَصْلٌ: وَإِذَا سُبِيَ الْمُتَزَوِّجُ مِنْ الْكُفَّارِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يُسْبَى الزَّوْجَانِ مَعًا، فَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وَالْمُحْصَنَاتُ الْمُزَوَّجَاتُ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] بِالسَّبْيِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إلَّا ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمَسْبِيَّاتِ. وَلِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى مَحِلِّ حَقِّ الْكَافِرِ، فَزَالَ مِلْكُهُ، كَمَا لَوْ سَبَاهَا وَحْدَهَا. وَلَنَا، أَنَّ الرِّقَّ مَعْنًى لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، فَلَا يَقْطَعُ اسْتِدَامَتَهُ، كَالْعِتْقِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، وَكَانُوا أَخَذُوا النِّسَاءَ دُونَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَعُمُومُ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْمَمْلُوكَةِ الْمُزَوَّجَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيُخَصُّ مِنْهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ تُسْبَى الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا، فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، بِلَا خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ، وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا سُبِيت الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا، ثُمَّ سُبِيَ زَوْجُهَا بَعْدَهَا بِيَوْمٍ، لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ. وَلَنَا، أَنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِلْفَسْخِ وُجِدَ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ سُبِيَ بَعْدَ شَهْرٍ. الْحَالُ الثَّالِثُ، سُبِيَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ، فَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِيه، وَقَدْ سَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعِينَ مِنْ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَنَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَفَادَى بَعْضًا، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِفَسْخِ أَنْكِحَتِهِمْ. وَلِأَنَّنَا إذَا لَمْ نَحْكُمْ بِفَسْخِ النِّكَاحِ فِيمَا إذَا سُبِيَا مَعًا، مَعَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَحَلِّ حَقِّهِ، فَلَأَنْ لَا يَنْفَسِخَ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِيلَاءِ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ افْتَرَقَتْ بِهِمَا الدَّارُ، وَطَرَأَ الْمِلْكُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ سُبِيَ وَاسْتَرَقَّ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، وَإِنْ مُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فَوُدِّي، لَمْ يَنْفَسِخْ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ السَّبْيَ لَمْ يُزِلْ مِلْكَهُ عَنْ مَالِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَمْ يُزِلْهُ عَنْ زَوْجَتِهِ، كَمَا لَمْ يُزِلْهُ عَنْ أَمَتِهِ. (7536) فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا فِي سَبْيِ الزَّوْجَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَسْبِيَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ رَجُلَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا إذَا كَانَا مَعَ رَجُلَيْنِ، كَانَ مَالِكٌ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدًا بِهَا، وَلَا زَوْجَ مَعَهُ لَهَا، فَتَحِلُّ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا سُبِيَا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ فِي الْمُقَاسِمِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ، فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ، أَوْ يُقِرُّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ. وَلَنَا، أَنَّ تَجَدُّدَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَيْنِ لِرَجُلٍ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْفَسْخِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَيْنِ مُسْلِمَيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ. [فَصْلٌ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7537) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حُقِنَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مِنْ السَّبْيِ. وَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَرَقِيقِهِ وَمَتَاعِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ، تُرِكَ لَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، جَازَ سَبْيُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إسْلَامُهُمْ بِإِسْلَامِهِ، لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا إذَا سُبِيَ الطِّفْلُ وَأَبَوَاهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ، لَمْ يَتْبَعُهَا، وَيَتْبَعُ سَابِيه فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ فَهُوَ فَيْءٌ، وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ إذَا كَانَتْ كَافِرَةً، وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّ أَوْلَادَهُ أَوْلَادُ مُسْلِمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ كَانُوا مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُسْلِمٍ، فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِذَلِكَ يُفَارِقُ مَالَ الْحَرْبِيِّ وَأَوْلَادَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُ؛ فَإِنَّنَا نَجْعَلُهُ تَبَعًا لِلسَّابِي؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ بَقَاءَ أَبَوَيْهِ، فَأَمَّا أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ، فَلَا يَعْصِمُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْبَعُونَهُ، وَلَا يَعْصِمُ زَوْجَتَهُ لِذَلِكَ، فَإِنْ سُبِيَتْ صَارَتْ رَقِيقًا، وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ بِرِقِّهَا، وَلَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهَا فِي النِّكَاحِ وَفَسْخِهِ حُكْمَ مَا لَوْ لَمْ تُسْبَ، عَلَى مَا مَرَّ فِي نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجِهَا، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُ الْحَمْلِ، وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْكَمُ بِرِقِّهِ مَعَ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ مَا سَرَى إلَيْهِ الْعِتْقُ سَرَى إلَيْهِ الرِّقُّ، كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ وَإِسْلَامِهِ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ، كَالْمُنْفَصِلِ، وَيُخَالِفُ الْأَعْضَاءَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ عَنْ الْأَصْلِ. (7538) فَصْلٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُ مَالٌ وَعَقَارٌ، أَوْ دَخَلَ إلَيْهَا مُسْلِمٌ فَابْتَاعَ عَقَارًا أَوْ مَالًا، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَالِهِ وَعَقَارِهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ، وَكَانَ لَهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَغْنَمُ الْعَقَارُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ مُسْلِمٍ، لَمْ يُغْنَمْ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَجَازَ اغْتِنَامُهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ لِحَرْبِيٍّ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَاتِبَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. [فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ أَرْضًا مِنْ حَرْبِيٍّ ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ] (7539) فَصْلٌ: إذَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ أَرْضًا مِنْ حَرْبِيٍّ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، وَمَنَافِعُهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَجَزْتُمْ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرَةِ الْحَرْبِيَّةِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا قَدْ أَسْلَمَ، وَفِي اسْتِرْقَاقِهَا إبْطَالُ حَقِّ زَوْجِهَا؟ قُلْنَا: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، وَلَا أَمَانَ لَهَا، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةَ مُسْلِمٍ، وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ النِّكَاحِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، بِخِلَافِ حَقِّ الْإِجَارَةِ. [فَصْل أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ أَوْ أَمَتُهُ وَخَرَجَ إلَيْنَا] (7540) فَصْلٌ: إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ أَوْ أَمَتُهُ، وَخَرَجَ إلَيْنَا، فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ أَسَرَ سَيِّدَهُ وَأَوْلَادَهُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَخَرَجَ إلَيْنَا، فَهُوَ حُرٌّ، وَالْمَالُ لَهُ، وَالسَّبْيُ رَقِيقُهُ. وَإِنْ أَسْلَمَ وَأَقَامَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ عَلَى رِقِّهِ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ الْحَرْبِيِّ، وَخَرَجَتْ إلَيْنَا، عَتَقَتْ، وَاسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ بِهِ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ: تُزَوَّجُ إنْ شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ، لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ عَتَقَتْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، كَمَا لَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ الْحَجَّاجِ، عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إذَا جَاءُوا قَبْلَ مَوَالِيهمْ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَعْشَمِ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ قَضِيَّتَيْنِ؛ قَضَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ سَيِّدِهِ أَنَّهُ حُرٌّ، فَإِنْ خَرَجَ سَيِّدُهُ بَعْدُ، لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، وَقَضَى أَنَّ السَّيِّدَ إذَا خَرَجَ قَبْلَ الْعَبْدِ ثُمَّ خَرَجَ الْعَبْدُ، رُدَّ عَلَى سَيِّدِهِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ أَيْضًا، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ عَلَيْنَا أَبَا بَكْرَةَ، وَكَانَ عَبْدًا لَنَا، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا، فَأَسْلَمَ، فَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْنَا، «وَقَالَ: هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، ثُمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ» . فَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْنَا. [مَسْأَلَةٌ أَخَذَ الْكُفَّار أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَهَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ] (7541) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَا أَخَذَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعَبِيدِهِمْ، فَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ قَسْمِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) . وَإِنْ أَدْرَكَهُ مَقْسُومًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، إذَا قُسِمَ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِحَالٍ يَعْنِي إذَا أَخَذَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَهَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ، فَإِنْ عُلِمَ صَاحِبُهَا قَبْلَ قَسْمِهَا، رُدَّتْ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُرَدُّ إلَيْهِ، وَهُوَ لِلْجَيْشِ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوهُ بِاسْتِيلَائِهِمْ، فَصَارَ غَنِيمَةً، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ غُلَامًا لَهُ أَبَقَ إلَى الْعَدُوِّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُقْسَمْ. وَعَنْهُ، قَالَ: ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ، فَأَخَذَهَا الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ حَيْوَةَ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِيمَا أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ بَعْدُ. قَالَ: مَنْ وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ يُقْسَمْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ. فَأَمَّا مَا أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ قُسِمَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ صَاحِبَهُ أَحَقُّ بِهِ، بِالثَّمَنِ الَّذِي حَسِبَ بِهِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ بِيعَ ثُمَّ قُسِمَ ثَمَنُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا لَهُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنْ أَصَبْته قَبْلَ أَنْ نَقْسِمَهُ، فَهُوَ لَك، وَإِنْ أَصَبْته بَعْدَمَا قُسِمَ، أَخَذْته بِالْقِيمَةِ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ أَخْذُهُ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى حِرْمَانِ أَخْذِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، أَوْ يَضِيعَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَحَقُّهُمَا يَنْجَبِرُ بِالثَّمَنِ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْمَالِ فِي عَيْنِ مَالِهِ، بِمَنْزِلَةِ مُشْتَرِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ. إلَّا أَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ. وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا قُسِمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِحَالٍ. نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَاللَّيْثِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ أَحَقُّ بِالْقِيمَةِ. فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، وَيُعْطَى مُشْتَرِيه ثَمَنَهُ مِنْ خُمُسِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، كَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَيُعْطِي مَنْ حُسِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى حِرْمَانِ آخِذِهِ حَقَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَجُعِلَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى السَّائِبِ: أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَ رَقِيقَهُ وَمَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي أَيْدِي التُّجَّارِ بَعْدَمَا اُقْتُسِمَ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ. وَقَالَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ: إذَا قُسِمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ ". وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا قَالَ النَّاسُ فِيهَا قَوْلَيْنِ؛ إذَا قُسِمَ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إذَا قُسِمَ فَهُوَ لَهُ بِالثَّمَنِ. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَمَتَى مَا انْقَسَمَ أَهْلُ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمٍ، لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ قُسِمَ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ.» وَالْمَعْمُولُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَزُلْ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ. غَيْرُ مُسَلَّمٍ. (7542) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ بِهِبَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَأْخُذُهُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لَوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُسِمَ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ، أَنَّ قَوْمًا أَغَارُوا عَلَى سَرْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذُوا نَاقَتَهُ، وَجَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَقَامَتْ عِنْدَهُمْ أَيَّامًا، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، قَالَتْ: فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةٍ إلَّا رَغَتْ، حَتَّى وَضَعْتهَا عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ، فَامْتَطَيْتهَا، ثُمَّ تَوَجَّهْت إلَى الْمَدِينَةِ، وَنَذَرْت إنْ نَجَّانِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا، فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ، اسْتَعْرَفْت النَّاقَةَ، فَإِذَا هِيَ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَهَا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَهَا. فَقَالَ: «بِئْسَمَا جَازَيْتِهَا، لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ بِعِوَضٍ، فَكَانَ صَاحِبُهُ أَحَقَّ بِهِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ قَسْمِهِ. فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَخْذُهُ إلَّا بِثَمَنِهِ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَرِيزٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَغَارَ أَهْلُ مَاهَ وَأَهْلُ جَلُولَاءَ عَلَى الْعَرَبِ، فَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْ سَبَايَا الْعَرَبِ، وَرَقِيقًا، وَمَتَاعًا، ثُمَّ إنَّ السَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ عَامِلَ عُمَرَ غَزَاهُمْ، فَفَتَحَ مَاهَ، فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ فِي سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ وَرَقِيقِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، قَدْ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ مَاهَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَخُونُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَ رَقِيقَهُ وَمَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي أَيْدِي التُّجَّارِ بَعْدَمَا اُقْتُسِمَ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَأَيُّمَا حُرٍّ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ الْحُرَّ لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ بِهِبَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شِرَاءٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، هَلْ يَكُونُ صَاحِبُهُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِمَالِ الْمُسْلِمِ قَبْلَ قَسْمِهِ، فَقَسَمَهُ، وَجَبَ رَدُّهُ، وَكَانَ صَاحِبُهُ أَحَقَّ بِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنْ أَصْلِهَا. [فَصْلٌ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهُ] (7543) فَصْلٌ: وَإِنْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهُ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَرَاكِبَ تَجِيءُ مِنْ مِصْرَ، يَقْطَعُ عَلَيْهَا الرُّومُ فَيَأْخُذُونَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ: إنْ عُرِفَ صَاحِبُهَا فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهَا جَازَ الْأَكْلُ مِنْهَا. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، قَالَا فِي الْمُصْحَفِ يَحْصُلُ فِي الْغَنَائِمِ: يُبَاعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ. وَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مَوْسُومٌ عَلَيْهِ: حُبِسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، رُدَّ كَمَا كَانَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُقْسَمُ مَا لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهُ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا قَدْ عُرِفَ مَصْرِفُهُ وَهُوَ الْحَبْسُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ مَا لَوْ عُرِفَ صَاحِبُهُ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَالْجَوَامِيسُ تُدْرَكُ وَقَدْ سَاقَهَا الْعَدُوُّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رُدَّتْ، يُؤْكَلُ مِنْهَا؟ قَالَ: إذَا عُرِفَ لِمَنْ هِيَ، فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهَا. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَمَا حَازَ الْعَدُوُّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ، أَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقِفُوهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صَاحِبُهُ؟ قَالَ: إذَا عُرِفَ فَقِيلَ: هُوَ لِفُلَانٍ. وَكَانَ صَاحِبُهُ بِالْقُرْبِ. قِيلَ لَهُ: أُصِيبَ غُلَامٌ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَقَالَ: أَنَا لِفُلَانٍ؛ رَجُلٍ؟ قَالَ: إذَا عُرِفَ الرَّجُلُ، لَمْ يُقْسَمْ مَالُهُ، وَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ. قِيلَ لَهُ: أَصَبْنَا مَرْكَبًا فِي بِلَادِ الرُّومِ، فِيهَا النَّوَاتِيَّةُ، قَالُوا: هَذَا لِفُلَانٍ، وَهَذَا لِفُلَانٍ. قَالَ: هَذَا قَدْ عُرِفَ صَاحِبُهُ، لَا يُقْسَمُ. [فَصْل يَمْلِكُ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ] (7544) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: يَمْلِكُ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَمْلِكُونَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، حَيْثُ قَالَ: إنْ أَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَخْذَهُ بَعْدَ قَسْمِهِ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ، وَمَتَى صَادَفَ الْحُكْمُ أَمْرًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، نَفَذَ حُكْمُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُونَهَا بِحَدِيثِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ، طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يُمْلَكْ بِهَا، كَالْغَصْبِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ غَيْرِهِ بِالْقَهْرِ، لَمْ يَمْلِكْ مَالَهُ بِهِ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْلِمِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ، كَالْبَيْعِ. فَأَمَّا النَّاقَةُ، فَإِنَّمَا أَخَذَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَدْرَكَهَا غَيْرَ مَقْسُومَةٍ وَلَا مُشْتَرَاةٍ. فَعَلَى هَذَا، يَمْلِكُونَهَا قَبْلَ حِيَازَتِهَا إلَى دَارِ الْكُفْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ إنَّمَا يَمْلِكُونَهَا بِالْحِيَازَةِ إلَى دَارِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ، فَيَثْبُتُ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ، أَثْبَتَهُ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ، أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِلْكُفَّارِ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرُوا عَلَيْهَا قِسْمَتَهَا، وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا، مَا لَمْ يَعْلَمُوا صَاحِبَهَا، وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ وَهِيَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ الْمِلْكَ، اقْتَضَى مَذْهَبُهُ عَكْسَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْكَافِر الْحَرْبِيّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ] (7545) فَصْلٌ: وَلَا أَعْلَمَ خِلَافًا فِي أَنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ، إذَا أَسْلَمَ، أَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، بَعْدَ أَنْ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَأَتْلَفَهُ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ. وَإِنْ أَسْلَمَ وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ لَهُ» . وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شِرَاءٍ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فِي حَالِ كُفْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَهْرِهِ لِلْمُسْلِمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ صَاحِبَهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَى جَارِيَةِ مُسْلِمٍ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَهِيَ لَهُ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَمْوَالِ. وَإِنْ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَوْلَادَهَا قَبْلَ إسْلَامِ سَابِيهَا، فَعُلِمَ صَاحِبُهَا، رُدَّتْ إلَيْهِ، وَكَانَ أَوْلَادُهَا غَنِيمَةً؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ كَافِرٍ حَدَثُوا بَعْدَ مِلْكِ الْكَافِرِ لَهَا. [فَصْلٌ أَبَقَ عَبْدُ الْمُسْلِمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ] (7546) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَوْلَوْا عَلَى حُرٍّ، لَمْ يَمْلِكُوهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدٌ بِحَالٍ، وَكُلُّ مَا يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ يَمْلِكُونَهُ بِالْقَهْرِ، كَالْعُرُوضِ، وَالْعَبْدِ الْقِنِّ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمَكَاتِبِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمْلِكُونَ الْمَكَاتِبَ وَأُمَّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِمَا، فَهُمَا كَالْحُرِّ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ بِالْقِيمَةِ، فَيَمْلِكُونَهُمَا، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكُوا الْمَكَاتِبَ دُونَ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا، وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا لِغَيْرِ سَيِّدِهَا. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ؛ أَنَّ مَنْ قَالَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِمَا، قَالَ: مَتَى قُسِمَا، أَوْ اشْتَرَاهُمَا إنْسَانٌ، لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِمَا أَخْذُهُمَا إلَّا بِالثَّمَنِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ، فِي أُمِّ الْوَلَدِ: يَأْخُذُهَا سَيِّدُهَا بِقِيمَةِ عَدْلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْدِيهَا الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، يَأْخُذُهَا سَيِّدُهَا بِقِيمَةِ عَدْلٍ، وَلَا يَدَعُهَا يَسْتَحِلُّ فَرْجَهَا مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِمَا. رُدَّا إلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَالْحُرِّ، وَإِنْ اشْتَرَاهُمَا إنْسَانٌ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَالْحُكْمِ فِي الْحُرِّ إذَا اشْتَرَاهُ. (7547) فَصْلٌ: إذَا أَبَقَ عَبْدُ الْمُسْلِمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذُوهُ، مَلَكُوهُ كَالْمَالِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمْلِكُونَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَارَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، زَالَتْ يَدُ مَوْلَاهُ عَنْهُ، وَصَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُمْلَكْ، كَالْحُرِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ لَوْ أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ، فَإِذَا أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مَلَكُوهُ، كَالْبَهِيمَةِ. [مَسْأَلَة أَخَذَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ] (7548) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ مِنْ مَوَاتِهِمْ حَجَرًا، أَوْ عُودًا، أَوْ صَادَ حُوتًا أَوْ ظَبْيًا، رَدَّهُ عَلَى سَائِرِ الْجَيْشِ، إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَكْلِهِ، وَالْمَنْفَعَةِ بِهِ) يَعْنِي إذَا أَخَذَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَالْمُسْلِمُونَ شُرَكَاؤُهُ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْفَرِدُ آخِذُهُ بِمِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكَهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، مَلَكَهُ، كَالشَّيْءِ التَّافِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ ذُو قِيمَةٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ بِظَهْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ غَنِيمَةً، كَالْمَطْعُومَاتِ، وَفَارَقَ مَا أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَيْشِ فِي أَخْذِهِ. فَأَمَّا إنْ احْتَاجَ إلَى أَكْلِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ طَعَامًا مَمْلُوكًا لِلْكُفَّارِ، كَانَ لَهُ أَكْلُهُ إذَا احْتَاجَ، فَمَا أَخَذَهُ مِنْ الصَّيُودِ وَالْمُبَاحَاتِ أَوْلَى. (7549) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَ مِنْ بُيُوتِهِمْ، أَوْ خَارِجٍ مِنْهَا، مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي أَرْضِهِمْ، كَالْمِسَنِّ، وَالْأَقْلَامِ، وَالْأَحْجَارِ، وَالْأَدْوِيَةِ، فَلَهُ أَخْذُهُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ صَارَتْ لَهُ قِيمَةٌ بِنَقْلِهِ أَوْ مُعَالَجَتِهِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى نَحْوِ هَذَا. وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَ بِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. دَفَعَهُ فِي الْمُقْسِم، وَإِنْ عَالَجَهُ فَصَارَ لَهُ ثَمَنٌ، أُعْطِيَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِيهِ، وَبِقِيمَتِهِ فِي الْمُقْسِم. وَلَنَا، أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا صَارَتْ لَهُ بِعَمَلِهِ أَوْ بِنَقْلِهِ، فَلَمْ تَكُنْ غَنِيمَةً، كَمَا لَوْ لَمْ تَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ. [فَصْلٌ تَرَكَ صَاحِبُ الْمُقْسِم شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ عَجْزًا عَنْ حَمْلِهِ] (7550) فَصْلٌ: وَإِنْ تَرَكَ صَاحِبُ الْمَقْسِمِ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ، عَجْزًا عَنْ حَمْلِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. فَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ غَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَيَبْقَى خُرْثِيُّ الْمَتَاعِ، مِمَّا لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى، فَيَدَعُهُ الْوَالِي بِمَنْزِلَةِ الْعَقَارِ وَالْفَخَّارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَيَأْخُذُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا تُرِكَ، وَلَمْ يُشْتَرَ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، فِي الْمَتَاعِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِهِ: إذَا حَمَلَهُ رَجُلٌ يُقْسَمُ. وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ. قَالَ الْخَلَّالُ: رَوَى أَبُو طَالِبٍ هَذِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا وَافَقَ أَصْحَابَهُ، وَفِي مَوْضِعٍ خَالَفَهُمْ. قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ هَذَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبِيحَهُ وَأَنْ يُحَرِّمَهُ، وَأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ إذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْمِلُهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَمْلِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَصَارَ كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا. [فَصْل وَجَدَ فِي دَار الْحَرْب رِكَازًا] (7551) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ فِي أَرْضِهِمْ رِكَازًا، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فِيهِ الْخُمْسُ، وَبَاقِيه لَهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتِهِمْ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَنَا؛ مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَّةِ الْحَرَمِيِّ، قَالَ: أَصَبْت بِأَرْضِ الرُّومِ جَرَّةً حَمْرَاءَ، فِيهَا دَنَانِيرُ، فِي إمْرَةِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَيْنَا مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ، فَأَتَيْته بِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَانِي مِثْلَ مَا أَعْطَى رَجُلًا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا نَفْلَ إلَّا بَعْدَ الْخُمْسِ» . لَأَعْطَيْتُك. ثُمَّ أَخَذَ يَعْرِضُ عَلَيَّ مِنْ نَصِيبِهِ، فَأَبَيْت. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ مَالُ مُشْرِكٍ، ظَهَرَ عَلَيْهِ بِقُوَّةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ غَنِيمَةً، كَأَمْوَالِهِمْ الظَّاهِرَةِ. [فَصْلٌ قَوْم يَكُونُونَ فِي حِصْنٍ أَوْ رِبَاطٍ فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ قَوْمٌ إلَى قِتَالهمْ فَيُصِيبُونَ دَوَابَّ أَوْ سِلَاحًا] (7552) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ، عَنْ الدَّابَّةِ تَخْرُجُ مِنْ بَلَدِ الرُّومِ، أَوْ تَنْفَلِتُ، فَتَدْخُلُ الْقَرْيَةَ، وَعَنْ الْقَوْمِ يَضِلُّونَ عَنْ الطَّرِيقِ، فَيَدْخُلُونَ الْقَرْيَةَ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَأْخُذُونَهُمْ؟ فَقَالَ يَكُونُونَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ كُلِّهِمْ، يَتَقَاسَمُونَهُمْ. وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَكُونُونَ فِي حِصْنٍ أَوْ رِبَاطٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ قَوْمٌ إلَى قِتَالِهِمْ، فَيُصِيبُونَ دَوَابَّ أَوْ سِلَاحًا؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الرِّبَاطِ وَأَهْلِ الْحَضْرَةِ مِنْ الْقَرْيَةِ. وَسُئِلَ عَنْ مَرْكَبٍ بَعَثَ بِهِ مَلِكُ الرُّومِ، فِيهِ رِجَالُهُ، فَطَرَحَتْهُ الرِّيحُ إلَى طَرْطُوسَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ أَهْلُ طَرْطُوس، فَقَتَلُوا الرِّجَالَ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ؟ فَقَالَ: هَذَا فَيْءٌ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا أَفَاءُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ لِمَنْ غَنِمَهُ، وَفِيهِ الْخُمْسُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ مِنْهُمْ، أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إلَيْنَا، فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ. فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَتَاعٌ أَخَذَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قُوَّةِ مُسْلِمٍ، فَكَانَ لَهُ، كَالْحَطَبِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَكُونُ فَيْئًا. فَصْلٌ: وَمَنْ وَجَدَ فِي دَارِهِمْ لُقَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا سَنَةً ثُمَّ يَمْلِكُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَتَاعِ الْمُشْرِكِينَ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، وَإِنْ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ، عَرَّفَهَا حَوْلًا، ثُمَّ جَعَلَهَا فِي الْغَنِيمَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَيُعَرِّفُهَا فِي بَلَدِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، فَغُلِّبَ فِيهَا حُكْمُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّعْرِيفِ، وَحُكْمُ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي كَوْنِهَا غَنِيمَةً احْتِيَاطًا. [مَسْأَلَةٌ تَعْلِف فَضْلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ] (7554) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ تَعَلَّفَ فَضْلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ بَاعَهُ، رَدَّ ثَمَنَهُ فِي الْمُقْسِم) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ، عَلَى أَنَّ لِلْغُزَاةِ إذَا دَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ، أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا وَجَدُوا مِنْ الطَّعَامِ، وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ مِنْ أَعْلَافِهِمْ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: لَا يُتْرَكُ إلَّا أَنْ يَنْهَى عَنْهُ الْإِمَامُ، فَيُتَّقَى نَهْيُهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيه، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَرُوِيَ أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ، كَتَبَ إلَى عُمَرَ: إنَّا أَصَبْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، وَكَرِهْت أَنْ أَتَقَدَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: دَعْ النَّاسَ يَعْلِفُونَ وَيَأْكُلُونَ، فَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَفِيهِ خُمْسُ اللَّهِ وَسِهَامُ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، قَالَ: «دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْته، وَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا. فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ، فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى هَذَا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ مَضَرَّةٌ بِالْجَيْشِ وَبِدَوَابِّهِمْ، فَإِنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ نَقْلُ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجِدُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ مَا يَشْتَرُونَهُ، وَلَوْ وَجَدُوهُ لَمْ يَجِدُوا ثَمَنَهُ، وَلَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ مَا يَأْخُذُهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ، وَلَوْ قُسِمَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْ الطَّعَامِ شَيْئًا مِمَّا يَقْتَاتُ أَوْ يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، مِنْ الْأُدْمِ وَغَيْرِهِ، أَوْ الْعَلَفِ لِدَابَّتِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ، رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَإِنْ أَعْطَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، جَازَ لَهُ أَخْذُهُ، وَصَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الْعَلَفِ، رَدَّ ثَمَنَهُ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ فُضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَكَرِهَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَمَالِكٌ بَيْعَهُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَازٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، فَيَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ، وَنَقْضُ الْبَيْعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، رَدَّ قِيمَتَهُ، أَوْ ثَمَنَهُ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ إلَى الْمَغْنَمِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَلَامُ الْخِرَقِيِّ. وَإِنْ بَاعَهُ لِغَازٍ، لَمْ يَحِلَّ، إلَّا أَنْ يُبْدِلَهُ بِطَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ مِمَّا لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ، فَلَيْسَ هَذَا بَيْعًا فِي الْحَقِيقَةِ، إنَّمَا سَلَّمَ إلَيْهِ مُبَاحًا، وَأَخَذَ مِثْلَهُ مُبَاحًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْتِفَاعُ بِمَا أَخَذَهُ، وَصَارَ أَحَقَّ بِهِ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ. وَإِنْ بَاعَهُ بِهِ نَسِيئَةً، أَوْ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ، فَأَخَذَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إيفَاؤُهُ، فَإِنْ وَفَّاهُ، أَوْ رَدَّهُ إلَيْهِ، عَادَتْ الْيَدُ إلَيْهِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَالْبَيْعُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهِ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلَا ثَمَنَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِ. (7555) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ دُهْنًا، فَهُوَ كَسَائِرِ الطَّعَامِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَلِأَنَّهُ طَعَامٌ، فَأَشْبَهَ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ، فَاحْتَاجَ أَنْ يَدْهُنَ بِهِ، أَوْ يَدْهُنَ دَابَّتَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ، إذَا كَانَ مِنْ حَاجَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي زَيْتِ الرُّومِ: إذَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةٍ أَوْ صُدَاعٍ، فَلَا بَأْسَ، فَأَمَّا التَّزَيُّنُ، فَلَا يُعْجِبُنِي، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ دَهْنُ دَابَّتِهِ مِنْ جَرَبٍ وَلَا يُوَقِّحُهَا إلَّا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا عَلَفٍ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ، أَشْبَهَ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ. وَلَهُ أَكْلُ مَا يَتَدَاوَى بِهِ، وَشُرْبُ الشَّرَابِ مِنْ الْجَلَّابِ وَالسَّكَنْجَبِينِ وَغَيْرِهِمَا، عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الطَّعَامِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقُوتِ، وَلَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَلَا يُبَاحُ مَعَ وُجُودِهَا، كَغَيْرِ الطَّعَامِ. وَلَنَا، أَنَّهُ طَعَامٌ اُحْتِيجَ إلَيْهِ، أَشْبَهَ الْفَوَاكِهَ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْحَاجَةَ هَاهُنَا، لِأَنَّ هَذَا لَا يُتَنَاوَلُ فِي الْعَادَةِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. (7556) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ بِالصَّابُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا عَلَفٍ، وَيُرَادُ لِلتَّحْسِينِ وَالزِّينَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُمَا. وَلَوْ كَانَ مَعَ الْغَازِي فَهْدٌ أَوْ كَلْبُ الصَّيْدِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إطْعَامُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ أَطْعَمَهَا غَرِمَ قِيمَةَ مَا أَطْعَمَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يُرَادُ لِلتَّفَرُّجِ وَالزِّينَةِ، وَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَزْوِ، بِخِلَافِ الدَّوَابِّ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لُبْسُ الثِّيَابِ وَلَا رُكُوبُ دَابَّةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ] (7557) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لُبْسُ الثِّيَابِ، وَلَا رُكُوبُ دَابَّةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، لِمَا رَوَى رُوَيْفِعٌ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. (7558) . فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهِمْ، وَاِتِّخَاذُ النَّعْلِ وَالْجُرُبِ مِنْهَا، وَلَا الْخُيُوطِ وَالْحِبَالِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَخَّصَ فِي اتِّخَاذِ الْجُرُبِ مِنْ جُلُودِ الْغَنَمِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى. وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي الْإِبْرَةِ، وَالْحَبْلِ يُتَّخَذُ مِنْ الشَّعْرِ، وَالنَّعْلِ وَالْخُفِّ يُتَّخَذُ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ. وَلَنَا مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَعْمَلُ الشَّعَرَ، فَهَبْهَا لِي. قَالَ: «نَصِيبِي مِنْهَا لَك» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، لَا تَدْعُو إلَى أَخْذِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ، كَالثِّيَابِ. (7559) فَصْلٌ: فَأَمَّا كُتُبُهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَكُتُبِ الطِّبِّ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَكِتَابِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا أَوْ وَرَقِهَا بَعْدَ غَسْلِهِ، غُسِلَ، وَهُوَ غَنِيمَةٌ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. [فَصْلٌ أَخَذُوا مِنْ الْكُفَّارِ جَوَارِحَ لِلصَّيْدِ] (7560) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذُوا مِنْ الْكُفَّارِ جَوَارِحَ لِلصَّيْدِ، كَالْفُهُودِ وَالْبُزَاةِ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ تُقْسَمُ. وَإِنْ كَانَتْ كِلَابًا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا. وَإِنْ لَمْ يُرِدْهَا أَحَدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ، جَازَ إرْسَالُهَا، أَوْ إعْطَاؤُهَا غَيْرَ الْغَانِمِينَ، وَإِنْ رَغِبَ فِيهَا بَعْضُ الْغَانِمِينَ دُونَ بَعْضٍ، دُفِعَتْ إلَيْهِ، وَلَمْ تَحْسِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنْ رَغِبَ فِيهَا الْجَمِيعُ، أَوْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَأَمْكَنَ قَسْمُهَا يَكُونُ عَدَدًا مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، أَوْ تَنَازَعُوا فِي الْجَيِّدِ مِنْهَا، فَطَلَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فِيهَا. وَإِنْ وَجَدُوا خَنَازِيرَ، قَتَلُوهَا؛ لِأَنَّهَا مُؤْذِيَةٌ، وَلَا نَفْعَ فِيهَا. وَإِنْ وَجَدُوا خَمْرًا أَرَاقُوهُ، وَإِنْ كَانَ فِي ظُرُوفِهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَخَذُوهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَفْعٌ، كَسَرُوهَا؛ لِئَلَّا يَعُودُوا إلَى اسْتِعْمَالِهَا. (7561) فَصْلٌ: وَلِلْغَازِي أَنْ يَعْلِفَ دَوَابَّهُ، وَيُطْعِمَ رَقِيقَهُ، مِمَّا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانُوا لِلْقُنْيَةِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَشْتَرِي الرَّجُلُ السَّبْيَ فِي بِلَادِ الرُّومِ، يُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِ الرُّومِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يُطْعِمُهُمْ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ بِلَادَ الرُّومِ، وَمَعَهُ الْجَارِيَةُ وَالدَّابَّةُ لِلتِّجَارَةِ، إنْ أَطْعَمَهُمَا يَعْنِي الْجَارِيَةَ وَعَلَفَ الدَّابَّةِ؟ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْعَامُ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْغَزْوِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ بَعْدَ هَذَا، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَا يُرَادُ بِهِ التِّجَارَةُ. [مَسْأَلَةٌ وَيُشَارِكُ الْجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَتْ] (7562) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيُشَارِكُ الْجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَتْ، وَيُشَارِكُونَهُ فِيمَا غَنِمَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَيْشَ إذَا فَصَلَ غَازِيًا، فَخَرَجَتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ أَوْ أَكْثَرُ، فَأَيُّهُمَا غَنِمَ، شَارَكَهُ الْآخَرُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَحَمَّادٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إنْ شَاءَ الْإِمَامُ خَمَسَ مَا تَأْتِي بِهِ السَّرِيَّةُ، وَإِنْ شَاءَ نَفَلَهُمْ إيَّاهُ كُلَّهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا غَزَا هَوَازِنَ، بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ الْجَيْشِ قِبَلَ أَوْطَاسٍ، فَغَنِمَتْ السَّرِيَّةُ، فَأَشْرَكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَيْشِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَيَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعَدِهِمْ» . وَفِي تَنْفِيلِ النَّبِيِّ فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبْعَ، وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ، دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اخْتَصُّوا بِمَا غَنِمُوهُ، لِمَا كَانَ ثُلُثُهُ نَفْلًا، وَلِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِدْءٌ لِصَاحِبِهِ، فَيَشْتَرِكُونَ، كَمَا لَوْ غَنِمَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْجَيْشِ. وَإِنْ أَقَامَ الْأَمِيرُ بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا، فَمَا غَنِمَتْ السَّرِيَّةُ فَهُوَ لَهَا وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِكُ الْمُجَاهِدُونَ، وَالْمُقِيمُ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِمُجَاهِدٍ. وَإِنْ نَفَّذَ مِنْ بَلَدِ الْإِسْلَامِ جَيْشَيْنِ أَوْ سَرِيَّتَيْنِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَنْفَرِدُ بِمَا غَنِمَتْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَتْ بِالْغَزْوِ، فَانْفَرَدَتْ بِالْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَصَلَ الْجَيْشُ، فَدَخَلَ بِجُمْلَتِهِ بِلَادَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ جَمِيعَهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْجِهَادِ، فَاشْتَرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ. [مَسْأَلَة فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الطَّعَامِ فَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ] (7563) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الطَّعَامِ، فَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، طَرَحَهُ فِي مَقْسَم تِلْكَ الْغَزَاةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ) وَالْأُخْرَى، يُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا. أَمَّا الْكَثِيرُ، فَيَجِبُ رَدُّهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ يَفْضُلُ مِنْهُ كَثِيرٌ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ أَخَذَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُهُ، لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَسَائِرِ الْمَالِ. وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، فَمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ لَهُ بَيْعُهُ. وَأَمَّا الْيَسِيرُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجِبُ رَدُّهُ أَيْضًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ» . وَلِأَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَمْ يُقْسَمْ، فَلَمْ يُبَحْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْكَبِيرِ، أَوْ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِيَةُ، يُبَاحُ. وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الشَّامِ يَتَسَاهَلُونَ فِي هَذَا. وَقَدْ رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزُورِ فِي الْغَزْوِ، وَلَا نَقْسِمُهُ، حَتَّى أَنْ كُنَّا لِنَرْجِعَ إلَى رِحَالِنَا وَأَخْرِجَتُنَا مُمْلَأَةٌ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ السُّلَمِيِّ، قَالَ: دَخَلْت عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدَّمَ إلَيَّ تُمَيْرًا مِنْ تُمَيْرِ الرُّومِ، فَقُلْت: لَقَدْ سَبَقْت النَّاسَ بِهَذَا. قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ الْعَامِ، هَذَا مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، فِي " سُنَنِهِ ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَدْرَكْت النَّاسَ يَقْدَمُونَ بِالْقَدِيدِ، فَيُهْدِيه بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، لَا يُنْكِرُهُ إمَامٌ وَلَا عَامِلٌ وَلَا جَمَاعَةٌ. وَهَذَا نَقْلٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ إمْسَاكُهُ عَنْ الْقِسْمَةِ، فَأُبِيحَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمُبَاحَاتِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا فِيهَا. وَيُفَارِقُهُ الْكَبِيرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إمْسَاكُهُ عَنْ الْقِسْمَةِ، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ تَجْرِي الْمُسَامَحَةُ فِيهِ، وَنَفْعُهُ قَلِيلٌ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. [مَسْأَلَة اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَسِيرًا مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ] (7564) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَسِيرًا مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، لَزِمَ الْأَسِيرَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ) لَا يَخْلُو هَذَا مِنْ حَالَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِإِذْنِهِ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْمُشْتَرِي مَا أَدَّاهُ فِيهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، إذَا وَزَنَ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِيهِ، كَانَ نَائِبَهُ فِي شِرَاءِ نَفْسِهِ، فَكَانَ الثَّمَنُ عَلَى الْآمِرِ، كَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِي، أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَيَلْزَمُ الْأَسِيرَ الثَّمَنُ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَدَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَمَّرَ دَارِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ إنْ كَانَ الْأَسِيرُ مُوسِرًا كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا، أَدَّى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالُ. وَلَنَا. مَا رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَرِيزٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَغَارَ أَهْلُ مَاهَ وَأَهْلُ جَلُولَاءَ عَلَى الْعَرَبِ، فَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْ سَبَايَا الْعَرَبِ، فَكَتَبَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ إلَى عُمَرَ فِي سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ وَرَقِيقِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، قَدْ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ مَاهَ، فَكَتَبَ عُمَرَ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَصَابَ رَقِيقَهُ وَمَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي أَيْدِي التُّجَّارِ بَعْدَمَا اُقْتُسِمَ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَأَيُّمَا حُرٍّ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِمْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ؛ فَإِنَّ الْحُرَّ لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى. فَحَكَمَ لِلتُّجَّارِ بِرُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ. وَلِأَنَّ الْأَسِيرَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدَاءُ نَفْسِهِ، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ حُكْمِ الْكُفَّارِ، وَيَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا نَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ قَضَى الْحَاكِمُ عَنْهُ حَقًّا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ. (7565) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَسِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذَا أَذِنَ لَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي فِعْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِفِعْلِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَسِيرَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُهُ بِالْأَصْلِ. [مَسْأَلَةٌ سَبَى الْمُشْرِكُونَ مَنْ يُؤَدِّي إلَيْنَا الْجِزْيَةَ] (7566) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا سَبَى الْمُشْرِكُونَ مَنْ يُؤَدِّي إلَيْنَا الْجِزْيَةَ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ، رُدُّوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُسْتَرَقُّوا، وَمَا أَخَذَهُ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ مِنْ مَالٍ أَوْ رَقِيقٍ، رُدَّ إلَيْهِمْ، إذَا عُلِمَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، وَيُفَادَى بِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُفَادَى بِالْمُسْلِمِينَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَهْلِ ذِمَّتِنَا، فَسَبَوْهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى ذِمَّتِهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِمَّتَهُمْ بَاقِيَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَا يُوجِبُ نَقْضَهَا. وَحُكْمُ أَمْوَالِهِمْ، حُكْمُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُرْمَتِهَا. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا. فَمَتَى عُلِمَ صَاحِبُهَا قَبْلَ قَسَمَهَا وَجَبَ رَدُّهَا إلَيْهِ، وَإِنْ عُلِمَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ لَهُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعْصُومَةٌ كَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا فِدَاؤُهُمْ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يَجِبُ فِدَاؤُهُمْ، سَوَاءٌ كَانُوا فِي مَعُونَتِنَا أَوْ لَمْ يَكُونُوا. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاللَّيْثِ؛ لِأَنَّنَا الْتَزَمْنَا حِفْظَهُمْ، بِمُعَاهَدَتِهِمْ، وَأَخْذِ جِزْيَتِهِمْ، فَلَزِمَنَا الْقِتَالُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَالْقِيَامُ دُونَهُمْ، فَإِذَا عَجَزْنَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمْكَنَنَا تَخْلِيصُهُمْ، لَزِمَنَا ذَلِكَ، كَمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إتْلَافُ شَيْءٍ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ غَرِمَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يَجِبُ فِدَاؤُهُمْ إذَا اسْتَعَانَ بِهِمْ الْإِمَامُ فِي قِتَالِهِ فَسُبُوا وَجَبَ عَلَيْهِ فِدَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ أَسْرَهُمْ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَمَتَى وَجَبَ فِدَاؤُهُمْ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِفِدَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُمْ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ، وَالْخَوْفَ عَلَيْهِ أَشَدُّ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. (7567) فَصْلٌ: وَيَجِبُ فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ إذَا أَمْكَنَ. وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَيَرْوِي عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ: عَلَى مَنْ فِكَاكُ الْأَسِيرِ؟ قَالَ: عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُقَاتِلُ عَلَيْهَا. وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» . وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ، وَأَنْ يَفُكُّوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ". وَفَادَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، وَفَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَجُلَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَغَانِم إذَا جُمِعَتْ وَفِيهَا طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ] (7568) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا حَازَ الْأَمِيرُ الْمَغَانِمَ، وَوَكَّلَ مَنْ يَحْفَظُهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهَا، إلَّا أَنْ تَدْعُوَ الضَّرُورَةُ، بِأَنْ لَا يَجِدُوا مَا يَأْكُلُونَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَغَانِمَ إذَا جُمِعَتْ، وَفِيهَا طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ، لَمْ يَجُزْ لَأَحَدٍ أَخْذُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّنَا إنَّمَا أَبَحْنَا أَخْذَهُ قَبْلَ جَمْعِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدُ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاحَات مِنْ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، فَإِذَا حِيزَتْ الْمَغَانِمُ، ثَبَتَ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، فَخَرَجَتْ عَنْ حَيِّزِ الْمُبَاحَاتِ، وَصَارَتْ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يَجِدُوا مَا يَأْكُلُونَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حِفْظَ نُفُوسِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ أَهَمُّ، وَسَوَاءٌ حِيزَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، جَازَ الْأَكْلُ مِنْهَا وَإِنْ حِيزَتْ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، لِعُسْرِ نَقْلِ الْمِيرَةِ إلَيْهَا، بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَامٌّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيه؛ فَإِنَّ مَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَتَحَقَّقَ مِلْكُهُمْ لَهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ إلَّا بِرِضَاهُمْ، كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، وَلِأَنَّ حِيَازَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تُثْبِتُ الْمِلْكَ فِيهِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ قِسْمَتِهِ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الْمِلْكِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْحِيَازَةِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ بَعْدُ. [مَسْأَلَة بَاعَ مِنْ الْمَغْنَمِ شَيْئًا قَبْلَ قَسْمِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ] (7569) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى مِنْ الْمَغْنَمِ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُخِذَ مِنْهُ الثَّمَنُ، رُدَّ إلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَمِيرَ إذَا بَاعَ مِنْ الْمَغْنَمِ شَيْئًا قَبْلَ قَسَمَهُ لِمَصْلَحَةٍ، صَحَّ بَيْعُهُ، فَإِنْ عَادَ الْكُفَّارُ، فَغَلَبُوا عَلَى الْمَبِيعِ، فَأَخَذُوهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، مِثْلُ أَنْ خَرَجَ بِهِ مِنْ الْمُعَسْكَرِ، وَنَحْو ذَلِكَ، فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ حَصَلَ بِتَفْرِيطِهِ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ، وَإِنْ حَصَلَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَكُونُ مِنْ ضَمَانِ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ الْمُشْتَرِي، سَقَطَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، رُدَّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكْمُلْ، لِكَوْنِ الْمَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ غَيْرَ مُحْرِزٍ، وَكَوْنِهِ عَلَى خَطَرٍ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَشْبَهَ التَّمْرَ الْمَبِيعَ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ إذَا تَلِفَ قَبْلَ الْجُذَاذِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ. وَهَذَا أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ، وَأَبُو بَكْرٍ صَاحِبُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْبُوضٌ، أُبِيحَ لِمُشْتَرِيهِ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أُحْرِزَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الْعَدُوِّ لَهُ تَلَفٌ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ الْبَائِعُ، كَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّلَفِ، وَلِأَنَّ نَمَاءَهُ لِلْمُشْتَرِي، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . (7570) فَصْلٌ: وَإِذَا قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، جَازَ لِمَنْ أَخَذَ سَهْمَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ بَاعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَيْئًا مِنْهَا، فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، فَفِي ضَمَانِ الْبَائِعِ لَهُ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ اشْتَرَاهُ مُشْتَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَكَذَلِكَ، فَإِذَا قُلْنَا: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، بِمَا رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ. (7571) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ مِنْ الْمَغْنَمِ، مَعَهَا الْحُلِيُّ فِي عُنُقِهَا وَالثِّيَابُ: يَرُدُّ ذَلِكَ فِي الْمَغْنَمِ، إلَّا شَيْئًا تَلْبَسُهُ، مِنْ قَمِيصٍ وَمِقْنَعَةٍ وَإِزَارٍ. وَهَذَا قَوْلُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَمَكْحُولٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، وَالْمُتَوَكِّلِ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَيُشْبِهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ. وَاحْتَجَّ إِسْحَاقُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ» . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَكَانَ مَالِكٌ يُرَخِّصُ فِي الْيَسِيرِ، كَالْقُرْطَيْنِ وَأَشْبَاهِهِمَا، وَلَا يَرَى ذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَصَّلَ الْقَوْلُ فِي هَذَا، فَيُقَالُ: مَا كَانَ عَلَيْهَا ظَاهِرًا مَرْئِيًّا، يُشَاهِدُهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، كَالْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ وَالْقِلَادَةِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا بَاعَهَا بِمَا عَلَيْهَا، وَالْمُشْتَرِيَ اشْتَرَاهَا بِذَلِكَ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ، وَمَا خَفِيَ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْبَائِعُ، رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَيْهَا بِدُونِهِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، كَجَارِيَةٍ أُخْرَى. (7572) . فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَغْنَمِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يُحَابَى، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَدَّ مَا اشْتَرَاهُ ابْنُهُ فِي غَزْوَةِ جَلُولَاءَ، وَقَالَ: إنَّهُ يُحَابَى. احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّهُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْ وَكِيلُهُ، فَكَأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْ نَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِ نَفْسِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَوَّمَ أَصْحَابُ الْمَغَانِمِ شَيْئًا مَعْرُوفًا، فَقَالُوا فِي جُلُودِ الْمَاعِزِ بِكَذَا. وَالْخِرْفَانِ بِكَذَا. يَحْتَاجُ إلَيْهِ، يَأْخُذُهُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، وَلَا يَأْتِي الْمَغَانِمَ؟ فَرَخَّصَ فِيهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الِاسْتِئْذَانُ فِيهِ، فَسُومِحَ فِيهِ، كَمَا سُومِحَ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَرُكُوبِ سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ، مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوز تَحْرِيق الْعَدُوّ بِالنَّارِ فِي الْحَرْب] مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا حُورِبَ الْعَدُوُّ، لَمْ يُحَرَّقُوا بِالنَّارِ) أَمَّا الْعَدُوُّ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ بِالنَّارِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْمُرُ بِتَحْرِيقِ أَهْلِ الرِّدَّةِ بِالنَّارِ. وَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِأَمْرِهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى حَمْزَةُ الْأَسْلَمِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ، قَالَ: فَخَرَجْت فِيهَا، فَقَالَ: «إنْ أَخَذْتُمْ فُلَانًا، فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ» . فَوَلَّيْت، فَنَادَانِي، فَرَجَعْت، فَقَالَ: «إنْ أَخَذْتُمْ فُلَانًا، فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تَحْرِقُوهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَسَعِيدٌ. وَرَوَى أَحَادِيثَ سِوَاهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ حَدِيثِ حَمْزَةَ. فَأَمَّا رَمْيُهُمْ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالنَّارِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُمْ بِدُونِهَا، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمْ بِغَيْرِهَا، فَجَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَوَى سَعِيدٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ أُمَيَّةَ الْأَزْدِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الْفَزَارِيَّ، وَغَيْرَهُمَا مِنْ وُلَاةِ الْبَحْرَيْنِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَانُوا يَرْمُونَ الْعَدُوَّ مِنْ الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ بِالنَّارِ، وَيُحَرِّقُونَهُمْ، هَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ. قَالَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ: لَمْ يَزُلْ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. (7574) فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي فَتْحِ الْبُثُوقِ عَلَيْهِمْ، لِيُغْرِقَهُمْ، إنْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ، إذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ إتْلَافَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، الَّذِينَ يَحْرُمُ إتْلَافُهُمْ قَصْدًا، وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِمْ إلَّا بِهِ، جَازَ، كَمَا يَجُوزُ الْبَيَاتُ الْمُتَضَمِّنُ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ نَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمْ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ. وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة. وَلِأَنَّ الْقِتَالَ بِهِ مُعْتَادٌ، فَأَشْبَهَ الرَّمْيَ بِالسِّهَامِ. (7575) . فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَبْيِيتُ الْكُفَّارِ، وَهُوَ كَسْبُهُمْ لَيْلًا، وَقَتْلُهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِالْبَيَاتِ، وَهَلْ غَزْوُ الرُّومِ إلَّا الْبَيَاتُ، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ بَيَاتَ الْعَدُوِّ. وَقَرَأَ عَلَيْهِ: سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ عَنْ الدِّيَارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، نُبَيِّتُهُمْ فَنُصِيبُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟ فَقَالَ: " هُمْ مِنْهُمْ ". فَقَالَ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُمْ، فَلَا. قَالَ: وَحَدِيثُ الصَّعْبِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ حِينَ بَعَثَ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ. وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى التَّعَمُّدِ، وَالْإِبَاحَةُ عَلَى مَا عَدَاهُ. [فَصْلٌ كَانَ فِي الْمَطْمُورَةِ الْعَدُوُّ فَعَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ النَّارِ] (7576) فَصْلٌ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا كَانَ فِي الْمَطْمُورَةِ الْعَدُوُّ، فَعَلِمْت أَنَّك تَقْدِرُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ النَّارِ، فَأَحَبُّ إلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْ النَّارِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَأَبَوْا أَنْ يَخْرُجُوا فَلَا أَرَى بَأْسًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ بِهَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ، وَهِشَامٌ. وَيُدَخَّنُ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الشَّامِ أَعْلَمُ بِهَذَا [فَصْل تَتَرَّسُوا فِي الْحَرْبِ بِنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ الْعَدُوّ] (7757) (7577) فَصْلٌ: وَإِنْ تَتَرَّسُوا فِي الْحَرْبِ بِنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ، جَازَ رَمْيُهُمْ، وَيَقْصِدُ الْمُقَاتِلَةَ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَمَعَهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ» ، وَلِأَنَّ كَفَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا ذَلِكَ تَتَرَّسُوا بِهِمْ عِنْدَ خَوْفِهِمْ فَيَنْقَطِعُ الْجِهَادُ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَرْبُ مُلْتَحِمَةً أَوْ غَيْرَ مُلْتَحِمَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتَحَيَّنُ بِالرَّمْيِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ. [فَصْلٌ وَقَفَتْ امْرَأَةٌ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ أَوْ عَلَى حِصْنِهِمْ فَشَتَمَتْ الْمُسْلِمِينَ] (7578) فَصْلٌ: وَلَوْ وَقَفَتْ امْرَأَةٌ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ أَوْ عَلَى حِصْنِهِمْ، فَشَتَمَتْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ تَكَشَّفَتْ لَهُمْ، جَازَ رَمْيُهَا قَصْدًا؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الطَّائِفِ أَشْرَفَتْ امْرَأَةٌ، فَكَشَفَتْ عَنْ قُبُلِهَا، فَقَالَ: هَا دُونَكُمْ فَارْمُوهَا. فَرَمَاهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا أَخْطَأَ ذَلِكَ مِنْهَا» . وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى رَمْيِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ رَمْيِهَا. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَمْيُهَا إذَا كَانَتْ تَلْتَقِطُ لَهُمْ السِّهَامَ، أَوْ تَسْقِيهِمْ، أَوَتُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقَاتِلِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالشَّيْخِ وَسَائِرِ مَنْ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ مِنْهُمْ. [فَصْلٌ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ وَلَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ] (7579) فَصْلٌ: وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ، وَلَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ، لِكَوْنِ الْحَرْبِ غَيْرَ قَائِمَةٍ، أَوْ لِإِمْكَانِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ بِدُونِهِ، أَوْ لِلْأَمْنِ مِنْ شَرِّهِمْ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ. فَإِنْ رَمَاهُمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى رَمْيِهِمْ لِلْخَوْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، جَازَ رَمْيُهُمْ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ وَيَقْصِدُ الْكُفَّارَ. وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالرَّمْيِ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ: لَا يَجُوزُ رَمْيُهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] الْآيَةَ. . قَالَ اللَّيْثُ: تَرْكُ فَتْحِ حِصْنٍ يُقْدَرُ عَلَى فَتْحِهِ، أَفْضَلُ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَيْفَ يَرْمُونَ مَنْ لَا يَرَوْنَهُ، إنَّمَا يَرْمُونَ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ رَمْيُهُمْ إذَا كَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ قَتَلَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَالثَّانِيَةُ، لَا دِيَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرَمْيٍ مُبَاحٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا دِيَةَ لَهُ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ أُبِيحَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا، كَرَمْيِ مَنْ أُبِيحَ دَمُهُ. وَلَنَا، الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا بِالْإِيمَانِ، وَالْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَتَتَرَّسْ بِهِ. [مَسْأَلَة تَغْرِيقَ النَّحْلِ وَتَحْرِيقَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7580) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يُغَرِّقُوا النَّحْلَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ تَغْرِيقَ النَّحْلِ وَتَحْرِيقَهُ لَا يَجُوزُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَنُحَرِّقُ بُيُوتَ نَحْلِهِمْ؟ قَالَ: أَمَّا النَّحْلُ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَيْظًا لَهُمْ وَإِضْعَافًا، فَأَشْبَهَ قَتْلَ بَهَائِمِهِمْ حَالَ قِتَالِهِمْ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يُوصِيهِ، حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى الْقِتَالِ بِالشَّامِ: وَلَا تُحَرِّقْنَ نَحْلًا، وَلَا تُغْرِقَنَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ أَخِيهِ مِنْ غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَقَالَ: لَعَلَّك حَرَّقْت حَرْثًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَعَلَّك غَرَّقْت نَحْلًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَعَلَّك قَتَلْت صَبِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لِيَكُنْ غَزْوُك كَفَافًا. أَخْرَجَهُمَا سَعِيدٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ثَوْبَانَ. وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّحْلَةِ، وَنَهَى أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنْ الدَّوَابِّ صَبْرًا» . وَلِأَنَّهُ إفْسَادٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو رُوحٍ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ لِغَيْظِ الْمُشْرِكِينَ، كَنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ. وَأَمَّا أَخْذُ الْعَسَلِ وَأَكْلُهُ فَمُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ. [مَسْأَلَة لَا يَعْقِرُ شَاةً وَلَا دَابَّةً فِي دَارِ الْحَرْب] (7581) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَعْقِرُ شَاةً، وَلَا دَابَّةً، إلَّا لِأَكْلٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ أَمَّا عَقْرُ دَوَابِّهِمْ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ، لِمُغَايَظَتِهِمْ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ، سَوَاءٌ خِفْنَا أَخْذَهُمْ لَهَا أَوْ لَمْ نَخَفْ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَيْظًا لَهُمْ، وَإِضْعَافًا لِقُوَّتِهِمْ، فَأَشْبَهَ قَتْلَهَا حَالَ قِتَالِهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا: يَا يَزِيدُ، لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا هَرِمًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا دَابَّةً عَجْمَاءَ، وَلَا شَاةً، إلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تُحَرِّقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغْرِقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ شَيْءٍ مِنْ الدَّوَابِّ صَبْرًا» . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو حُرْمَةٍ، فَأَشْبَهَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ. وَأَمَّا حَالُ الْحَرْبِ. فَيَجُوزُ فِيهَا قَتْلُ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ أَمْكَنَ، بِخِلَافِ حَالِهِمْ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا جَازَ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْبَيَاتِ، وَفِي الْمَطْمُورَةِ، إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُمْ مُنْفَرِدِينَ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَقَتْلِ بَهَائِمِهِمْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَتْلِهِمْ وَهَزِيمَتِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ الْمَدَدِيِّ الَّذِي عَقَرَ بِالرُّومِيِّ فَرَسَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ، عَقَرَ فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَمَتْ بِهِ، فَخَلَّصَهُ ابْنُ شَعُوبٍ وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ. (7582) فَصْلٌ: فَأَمَّا عَقْرُهَا لِلْأَكْلِ، فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ، فَمُبَاحٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تُبِيحُ مَالَ الْمَعْصُومِ، فَمَالُ الْكَافِرِ أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ لَا يُرَادُ إلَّا لِلْأَكْلِ، كَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَالصَّيْدِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّعَامِ. فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَتَقِلُّ قِيمَتُهُ، فَأَشْبَهَ الطَّعَامَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْقِتَالِ، كَالْخَيْلِ، لَمْ يُبَحْ ذَبْحُهُ لِلْأَكْلِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، كَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، لَمْ يُبَحْ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ مِثْلُ الطَّعَامِ فِي بَابِ الْأَكْلِ وَالْقُوتِ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِي إبَاحَتِهِ. وَإِذَا ذَبَحَ الْحَيَوَانَ، أَكَلَ لَحْمَهُ، وَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ مَا يَأْكُلُهُ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: كُلُوا لَحْمَ الشَّاةِ، وَرُدُّوا إهَابَهَا إلَى الْمَغْنَمِ. وَلِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ مَأْكُولٌ، فَأُبِيحَ أَكْلُهُ، كَالطَّيْرِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، مَا رَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ «ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: أَصَبْنَا غَنَمًا لِلْعَدُوِّ، فَانْتَهَبْنَا، فَنَصَبْنَا قُدُورَنَا، فَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُدُورِ وَهِيَ تَغْلِي، فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إنَّ النُّهْبَةَ لَا تَحِلُّ» . وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَكْثُرُ قِيمَتُهَا، وَتَشِحُّ أَنْفُسُ الْغَانِمِينَ بِهَا، وَيُمْكِنُ حَمْلُهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الطَّيْرِ وَالطَّعَامِ، لَكِنْ إنْ أَذِنَ الْأَمِيرُ فِيهَا جَازَ؛ لِمَا رَوَى عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا إذَا خَرَجْنَا فِي سَرِيَّةٍ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا، نَادَى مُنَادِي الْإِمَامِ: أَلَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ فَلْيَتَنَاوَلْ، إنَّا لَا نَسْتَطِيعُ سِيَاقَتَهَا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَكَذَلِكَ إنْ قَسَمَهَا؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا، فَقَسَمَ بَيْنَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَائِفَةً، وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا فِي الْمَغْنَمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ رَجُلًا نَحَرَ جَزُورًا بِأَرْضِ الرُّومِ، فَلَمَّا بَرَدَتْ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنْ لَحْمِ هَذِهِ الْجَزُورِ، فَقَدْ أَذِنَّا لَكُمْ. فَقَالَ مَكْحُولٌ: يَا غَسَّانِيُّ، أَلَا تَأْتِينَا مِنْ لَحْمِ هَذِهِ الْجَزُورِ؟ فَقَالَ الْغَسَّانِيُّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَمَا تَرَى عَلَيْهَا مِنْ النُّهْبَى؟ قَالَ مَكْحُولٌ: لَا نُهْبَى فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ. (7583) . فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ مَا عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ سِيَاقَتِهِ وَأَخْذِهِ، إنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ الْكُفَّارُ فِي الْقِتَالِ، كَالْخَيْلِ، جَازَ عَقْرُهُ وَإِتْلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْرُمُ إيصَالُهُ إلَى الْكُفَّارِ بِالْبَيْعِ فَتَرْكُهُ لَهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ، فَلِلْمُسْلِمِينَ ذَبْحُهُ، وَالْأَكْلُ مِنْهُ، مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، لَا يَجُوزُ إتْلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ إفْسَادٍ وَإِتْلَافٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ» . [مَسْأَلَة لَا يُحَرِّقُ زَرْعَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي بِلَادِنَا أَهْل الذِّمَّة] (7584) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَقْطَعُ شَجَرَهُمْ، وَلَا يُحَرِّقُ زَرْعَهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي بِلَادِنَا، فَيُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ لِيَنْتَهُوا وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إتْلَافِهِ كَاَلَّذِي يَقْرُبُ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَيَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ، أَوْ يُسْتَرُونَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى قَطْعِهِ لِتَوْسِعَةِ طَرِيقٍ، أَوْ تَمَكُّنٍ مِنْ قِتَالٍ، أَوْ سَدِّ بَثْقٍ، أَوْ إصْلَاحِ طَرِيقٍ، أَوْ سِتَارَةِ مَنْجَنِيقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا، فَيُفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ، لِيَنْتَهُوا، فَهَذَا يَجُوزُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. الثَّانِي، مَا يَتَضَرَّرُ الْمُسْلِمُونَ بِقَطْعِهِ، لِكَوْنِهِمْ يَنْتَفِعُونَ بِبَقَائِهِ لِعَلُوفَتِهِمْ، أَوْ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ، أَوْ يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِهِ، أَوْ تَكُونُ الْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا، فَإِذَا فَعَلْنَاهُ بِهِمْ فَعَلُوهُ بِنَا، فَهَذَا يَحْرُمُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثُ، مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَفْعٌ سِوَى غَيْظِ الْكُفَّارِ، وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَوَصِيَّتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ فِيهِ إتْلَافًا مَحْضًا، فَلَمْ يَجُزْ، كَعَقْرِ الْحَيَوَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ. وَبِهَذَا قَالَ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ إِسْحَاقُ: التَّحْرِيقُ سُنَّةٌ، إذَا كَانَ أَنْكَى فِي الْعَدُوِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهُوَ الْبُوَيْرَةُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] . وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: «فَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَهِدَ إلَيْهِ، فَقَالَ: أَغِرْ عَلَى أُبْنَا صَبَاحًا وَحَرِّقْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قِيلَ لِأَبِي مُسْهِرٍ: أُبْنَا. قَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ، هِيَ يُبْنَا فِلَسْطِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا أُبْنَا، كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْكَرْكِ، فِي أَطْرَافِ الشَّامِ، فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا أَبُوهُ، فَأَمَّا يُبْنَا فَهِيَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَلَمْ يَكُنْ أُسَامَةُ لِيَصِلَ إلَيْهَا، وَلَا يَأْمُرُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِغَارَةِ عَلَيْهَا، لِبُعْدِهَا، وَالْخَطَرِ بِالْمَصِيرِ إلَيْهَا، لِتَوَسُّطِهَا فِي الْبِلَادِ، وَبُعْدِهَا مِنْ طَرَفِ الشَّامِ، فَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْمُرَهُ بِالتَّغْرِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْخَبَرُ عَلَيْهَا، مَعَ مُخَالَفَةِ لَفْظِ الرِّوَايَةِ، وَفَسَادِ الْمَعْنَى،. [مَسْأَلَة الْمُسْلِم يَتَزَوَّجُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ] (7585) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يَتَزَوَّجُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، إلَّا أَنْ تَغْلِبَ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَيَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً، وَيَعْزِلَ عَنْهَا. وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ جَارِيَةً، لَمْ يَطَأْهَا فِي الْفَرْجِ، وَهُوَ فِي أَرْضِهِمْ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ بِأَمَانٍ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ أَبَا بَكْرٍ أَسْمَاءَ ابْنَةَ عُمَيْسٍ، وَهُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ» . أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْأَسِيرُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ إذَا أُسِرَتْ مَعَهُ، مَعَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، مَا كَانَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا دَامَ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْأَسِيرَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ رَقِيقًا لَهُمْ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ أَسِيرٍ اشْتَرَيْت مَعَهُ امْرَأَتُهُ، أَيَطَؤُهَا؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا، فَلَعَلَّ غَيْرَهُ مِنْهُمْ يَطَؤُهَا، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لَهُ: وَلَعَلَّهَا تَعْلَقُ بِوَلَدٍ، فَيَكُونُ مَعَهُمْ. قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، كَالتَّاجِرِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْخِرَقِيِّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّزَوُّجُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَأْتِيَ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَرُبَّمَا نَشَأَ بَيْنَهُمْ، فَيَصِيرُ عَلَى دِينِهِمْ. فَإِنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، وَيَعْزِلُ عَنْهَا، كَيْ لَا تَأْتِيَ بِوَلَدٍ. وَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَتْ مِنْهُمْ، غَلَبَتْهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: هَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ، وَإِنَّمَا كَرِهْنَا لَهُ التَّزَوُّجَ مِنْهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى وَلَدِهِ، فَيَسْتَرِقُّوهُ، وَيُعَلِّمُوهُ الْكُفْرَ، فَفِي تَزْوِيجِهِ تَعْرِيضٌ لِهَذَا الْفَسَادِ الْعَظِيمِ، وَازْدَادَتْ الْكَرَاهَةُ إذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ امْرَأَتَهُ تَغْلِبُهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَتُكَفِّرُهُ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً، وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ جَارِيَةً، لَمْ يَطَأْهَا فِي الْفَرْجِ فِي أَرْضِهِمْ، مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبُوهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَيَسْتَرِقُّوهُ، وَيُكَفِّرُوهُ. [فَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ] ِ: وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] . الْآيَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكَيْنِ، لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ، وَيَرَوْنَ نَارَهُ، إذَا أُوقِدَتْ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ. وَحُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقٍ، لَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» . وَقَالَ: «قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» . وَرُوِيَ «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا أَسْلَمَ، قِيلَ لَهُ: لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ. فَأَتَى الْمَدِينَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا جَاءَ بِك أَبَا وَهْبٍ؟ قَالَ: قِيلَ إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ. قَالَ: ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ، أَقِرُّوا عَلَى مَسَاكِنِكُمْ، فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» . رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ سَعِيدٌ. وَلَنَا مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ، قَالَ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَغَيْرُهُ، مَعَ إطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، وَتَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ، فَأَرَادَ بِهَا لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فُتِحَ. وَقَوْلُهُ لِصَفْوَانَ: " إنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ ". يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفَّارِ، فَإِذَا فُتِحَ لَمْ يَبْقَ بَلَدَ الْكُفَّارِ، فَلَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ. وَهَكَذَا كُلِّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا يَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ، وَإِنَّمَا الْهِجْرَةُ إلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالنَّاسُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ، وَلَا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] . وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. الثَّانِي؛ مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، أَوْ ضَعْفٍ؛ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشِبْهِهِمْ، فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99] . وَلَا تُوصَفُ بِاسْتِحْبَابٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا. وَالثَّالِثُ، مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ، وَإِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَتُسْتَحَبُّ لَهُ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعُونَتِهِمْ، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ، وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ. وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِإِمْكَانِ إقَامَةِ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ. وَرَوَيْنَا «أَنَّ نُعَيْمَ النَّحَّامَ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ، جَاءَهُ قَوْمُهُ بَنُو عَدِيٍّ، فَقَالُوا لَهُ: أَقِمْ عِنْدَنَا، وَأَنْتَ عَلَى دِينِك، وَنَحْنُ نَمْنَعُك مِمَّنْ يُرِيدُ أَذَاك، وَاكْفِنَا مَا كُنْت تَكْفِينَا. وَكَانَ يَقُومُ بِيَتَامَى بَنِي عَدِيٍّ وَأَرَامِلِهِمْ، فَتَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ مُدَّةً، ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَوْمُك كَانُوا خَيْرًا لَك مِنْ قَوْمِي لِي، قَوْمِي أَخْرَجُونِي، وَأَرَادُوا قَتْلِي، وَقَوْمُك حَفِظُوك وَمَنَعُوك. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: بَلْ قَوْمُك أَخْرَجُوك إلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَجِهَادِ عَدُوِّهِ وَقَوْمِي ثَبَّطُونِي عَنْ الْهِجْرَةِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ» . [مَسْأَلَة دَخَلَ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِأَمَانٍ] (7587) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: مَنْ دَخَلَ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِأَمَانٍ، لَمْ يَخُنْهُمْ فِي مَالِهِمْ، وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ بِالرِّبَا أَمَّا تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّبَا، مَعَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَسَائِرَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ. وَأَمَّا خِيَانَتُهُمْ، فَمُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ بِأَمَانٍ، فَخَانَنَا، كَانَ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لِأَنَّهُ غَدْرٌ، وَلَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . فَإِنْ خَانَهُمْ، أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ، أَوْ اقْتَرَضَ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ أَوْ إيمَانٍ، رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا بَعَثَ بِهِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، فَلَزِمَهُ رَدَّ مَا أَخَذَ، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ. [مَسْأَلَة أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ] (7588) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ، فَنَقَضُوهُ حُورِبُوا، وَقُتِلَ رِجَالُهُمْ، وَلَمْ تُسْبَ ذَرَارِيُّهُمْ، وَلَمْ يُسْتَرَقُّوا، إلَّا مَنْ وُلِدَ بَعْدَ نَقْضِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ، أَوْ أَخَذَ رَجُلٌ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ رِجَالُهُمْ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ الْمَوْجُودُونَ قَبْلَ النَّقْضِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ شَمِلَهُمْ جَمِيعًا، وَدَخَلَتْ فِيهِمْ الذُّرِّيَّةُ، وَالنَّقْضُ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ رِجَالِهِمْ، فَتَخْتَصُّ إبَاحَةُ الدِّمَاءِ بِهِمْ، وَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَنْفَرِدَ الرَّجُلُ بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانِ، دُونَ ذُرِّيَّتِهِ وَذُرِّيَّتُهُ دُونَهُ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْعَهْدُ فِيهِ دُونَهُمْ، وَالنَّقْضُ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، دُونَ الذُّرِّيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَتْ امْرَأَةُ عَلْقَمَةَ لَمَّا ارْتَدَّ: إنْ كَانَ عَلْقَمَةُ ارْتَدَّ، فَأَنَا لَمْ أَرْتَدَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِي مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ: لَيْسَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ شَيْءٌ. فَأَمَّا مَنْ وُلِدَ فِيهِمْ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَمَانٌ بِحَالٍ. وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ أَقَامُوا بِدَارِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا نِسَاؤُهُمْ، فَمَنْ لَحِقَتْ مِنْهُنَّ بِدَارِ الْحَرْبِ طَائِعَةً، أَوْ وَافَقَتْ زَوْجَهَا فِي نَقْضِ الْعَهْدَ، جَازَ سَبْيُهَا؛ لِأَنَّهَا بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ نَقَضَتْ الْعَهْدَ، فَأَشْبَهَتْ الرَّجُلَ، وَمَنْ لَمْ تَنْقُضْ الْعَهْدَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهَا بِنَقْضِ زَوْجِهَا. [فَصْلٌ أَهْلُ الْهُدْنَةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ] فَصْلٌ: فَأَمَّا أَهْلُ الْهُدْنَةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ، حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ. وَلَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا فَنَقَضَتْ عَهْدَهُ، حَلَّ لَهُ مِنْهُمْ مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ» . وَلِأَنَّ الْهُدْنَةَ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ، يَنْتَهِي بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، فَيَزُولُ بِنَقْضِهِ وَفَسْخِهِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، بِخِلَافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ. [فَصْلٌ مَعْنَى الْهُدْنَةِ] (7590) فَصْلٌ: وَمَعْنَى الْهُدْنَةِ، أَنْ يَعْقِدَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَقْدًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً، بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. وَتُسَمَّى مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً وَمُعَاهَدَةً، وَذَلِكَ جَائِزٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] . وَرَوَى مَرْوَانُ، وَمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ، سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ» . وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، فَيُهَادِنُهُمْ حَتَّى يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا لِلنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمْ ضَعْفٌ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَطْمَعَ فِي إسْلَامِهِمْ بِهُدْنَتِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمْ الْجِزْيَةَ، وَالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُهَادَنَةُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ نَقْضُهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ مِنْهَا. وَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ دُونَهُمْ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَالشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى» . وَلَا يَصِحُّ هَذَا، فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ نَقْضِهِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَهْلِ خَيْبَرَ هُدْنَةٌ، فَإِنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً، وَإِنَّمَا سَاقَاهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِهُدْنَةٍ اتِّفَاقًا، وَقَدْ وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ فِي أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنِّي أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ. لَمْ يَصِحَّ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، مَعَ إجْمَاعِهِمْ مَعَ غَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ، (7591) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ مَعْلُومَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مُدَّةُ الْعَشْرِ «لِمُصَالَحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرًا» ، فَفِيمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ زَادَ الْمُدَّةَ عَلَى عَشْرٍ، بَطَلَ فِي الزِّيَادَةِ. وَهَلْ تَبْطُلُ فِي الْعَشْرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرٍ، عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ فِي الْعَشْرِ، فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْعَامُّ مَخْصُوصٌ فِي الْعَشْرِ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الصُّلْحِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الْحَرْبِ. [فَصْلٌ مُهَادَنَة أَهْل الذِّمَّة عَلَى غَيْرِ مَالٍ] فَصْلٌ: وَتَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادَنَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهَا إذَا جَازَتْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَعَلَى مَالٍ أَوْلَى. وَأَمَّا إنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ نَبْذُلُهُ لَهُمْ، فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا إنْ دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلَاكَ أَوْ الْأَسْرَ، فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَالِ، فَكَذَا هَا هُنَا، وَلِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ صَغَارٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَالْأَسْرُ، وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يُفْضِي سَبْيُهُمْ إلَى كُفْرِهِمْ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فِي الْمَغَازِي، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَهُوَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ - يَعْنِي يَوْمَ الْأَحْزَابِ -: أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت لَك ثُلُثَ تَمْرِ الْأَنْصَارِ، أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَك مِنْ غَطَفَانَ، وَتَخْذُلُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُيَيْنَةُ: إنْ جَعَلْت لِي الشَّطْرَ فَعَلْت» . قَالَ مَعْمَرٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ يَجُرُّ سُرْمَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَامِ السَّنَةِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، مَا يُطِيقُ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَالْآنَ حِينَ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، نُعْطِيهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَنَعَمْ إذًا» . وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لِمَا بَذَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيَّ، بَعَثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنْ جَعَلْت لِي شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَّا مَلَأْتهَا عَلَيْك خَيْلًا وَرَجْلًا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَتَّى أُشَاوِرَ السُّعُودَ يَعْنِي. سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ، فَشَاوَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا مِنْ السَّمَاءِ، فَتَسْلِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ بِرَأْيِك وَهَوَاك، اتَّبَعْنَا رَأْيَك وَهَوَاك، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا مِنْ السَّمَاءِ وَلَا بِرَأْيِك وَهَوَاك، فَوَاَللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بُسْرَةً وَلَا تَمْرَةً إلَّا شِرَاءً أَوْ قِرًى، فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَسُولِهِ: أَتَسْمَعُ؟» فَعَرَضَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَعْلَمَ ضَعْفَهُمْ مِنْ قُوَّتِهِمْ، فَلَوْلَا جَوَازُهُ عِنْدَ الضَّعْفِ، لِمَا عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ وَلَا الذِّمَّةِ إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ] (7593) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ وَلَا الذِّمَّةِ إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعَ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ. فَإِنْ هَادَنَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبُهُ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا الصُّلْحِ، كَانَ آمِنًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مُعْتَقِدًا لِلْأَمَانِ، وَيُرَدُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُقَرُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ عَقَدَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ، ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ عَقَدَهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ نَقْضُ أَحْكَامِ مَنْ قَبْلَهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] . وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفِ بِهَا، لَمْ يُسْكَنْ إلَى عَقْدِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهَا، فَإِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، جَازَ قِتَالُهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] «. وَلَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ، وَفَتَحَ مَكَّةَ.» وَإِنْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَسَكَتَ بَاقِيهمْ عَنْ النَّاقِضِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إنْكَارٌ، وَلَا مُرَاسَلَةُ الْإِمَامِ، وَلَا تَبَرُّؤٌ، فَالْكُلُّ نَاقِضُونَ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا، دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنُو بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ، وَأَعَانَهُمْ بَعْضُ قُرَيْشٍ، وَسَكَتَ الْبَاقُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضَ عَهْدِهِمْ، وَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاتَلَهُمْ.» وَلِأَنَّ سُكُوتَهُمْ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُمْ، كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مَعَ بَعْضِهِمْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُهُمْ؛ لِدَلَالَةِ سُكُوتِهِمْ عَلَى رِضَاهُمْ، كَذَلِكَ فِي النَّقْضِ. وَإِنْ أَنْكَرَ مَنْ لَمْ يَنْقُضْ عَلَى النَّاقِضِ، بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ، أَوْ اعْتِزَالٍ، أَوْ رَاسَلَ الْإِمَامَ بِأَنِّي مُنْكِرٌ لِمَا فَعَلَهُ النَّاقِضُ، مُقِيمٌ عَلَى الْعَهْدِ، لَمْ يَنْتَقِضْ فِي حَقِّهِ، وَيَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِالتَّمَيُّزِ، لِيَأْخُذَ النَّاقِضَ وَحْدَهُ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّمَيُّزِ، أَوْ إسْلَامِ النَّاقِضِ، صَارَ نَاقِضًا؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ أَخْذِ النَّاقِضِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّمَيُّزُ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ. فَإِنْ أَسَرَ الْإِمَامُ مِنْهُمْ قَوْمًا، فَادَّعَى الْأَسِيرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ، وَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، قُبِلَ قَوْلُ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْ قِبَلِهِ. [فَصْلٌ خَافَ نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ أَهْل الذِّمَّة] (7594) فَصْلٌ: وَإِنْ خَافَ نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ، جَازَ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . يَعْنِي أَعْلِمْهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ، حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَكْفِي وُقُوعُ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَنْ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَا خَافَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِقِتَالٍ وَلَا غَارَةٍ قَبْلَ إعْلَامِهِمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ؛ لِلْآيَةِ، وَلِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْعَهْدِ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَلَا أَخْذُ مَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّ الذِّمِّيَّ إذَا خِيفَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ. قُلْنَا: عَقْدُ الذِّمَّةِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ، وَهُوَ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ، وَعَقْدٌ مُؤَبَّدٌ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ وَالْأَمَانِ، وَلِهَذَا لَوْ نَقَضَ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُ الْبَاقِينَ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَتَجِبُ وِلَايَتُهُ، وَلَا يُخْشَى الضَّرَرُ كَثِيرًا مِنْ نَقْضِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُمْ الْغَارَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالضَّرَرُ الْكَثِيرُ بِأَخْذِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ مَنْ عَقَدَ الْهُدْنَةَ فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ] (7595) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ، فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ آمَنَهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، كَمَا أَمَّنَ مَنْ فِي قَبْضَتِهِ مِنْهُمْ. وَمَنْ أَتْلَفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَلَا تَلْزَمُهُ حِمَايَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا حِمَايَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْهُمْ فَقَطْ. فَإِنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ فَسَبَوْهُمْ. لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِنْقَاذُهُمْ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ شِرَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عَهْدِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَذَاهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ، فَلَا يَحْرُمُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ اسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَاسْتَنْقَذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهُ إلَيْهِمْ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوبُ رَدِّهِ، كَمَا تُرَدُّ أَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَيْهِمْ. [فَصْلٌ بَعْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا فَجَاءَنَا مِنْهُمْ إنْسَانٌ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ] (7596) فَصْلٌ: وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ مُطْلَقًا، فَجَاءَنَا مِنْهُمْ إنْسَانٌ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ، لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، أَوْ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. وَلَا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ خَرَجَ الْعَبْدُ إلَيْنَا قَبْلَ إسْلَامِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا، لَمْ يَصِرْ حُرًّا، لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا، وَالْهُدْنَةُ تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْقَهْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: إذَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ لَهُ مُسْلِمَةٌ، وَجَبَ رَدُّ مَهْرِهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] . يَعْنِي رُدَّ مَهْرُهَا إلَى زَوْجِهَا إذَا جَاءَ يَطْلُبُهَا، وَإِنْ جَاءَ غَيْرُهُ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ شَيْءٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، خَرَجَ إلَيْنَا، فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهُ، وَلَا رَدُّ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْهُ، كَالْحُرِّ مِنْ الرِّجَالِ، وَكَالْعَبْدِ إذَا خَرَجَ ثُمَّ أَسْلَمَ. قَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا. قُلْنَا: إنَّمَا أَمَّنَّاهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ هُمْ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي دَارِهِمْ، وَمَنْ لَيْسَ فِي قَبْضَتِهِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ قَبْلَ إسْلَامِهِ، وَلِهَذَا «لَمَّا قَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ لِرَدِّهِ، لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُضَمِّنْهُ، وَلَمَّا انْفَرَدَ هُوَ وَأَبُو جَنْدَلٍ وَأَصْحَابُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا الْمَالَ، لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا أَخَذُوهُ، وَلَا غَرَامَةِ مَا أَتْلَفُوهُ» . وَهَذَا الَّذِي أَسْلَمَ كَانَ فِي دَارِهِمْ وَقَبْضَتِهِمْ، وَقَهْرِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَصَارَ حُرًّا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَلَا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَوْ أَخَذَتْهُ كَانَتْ قَدْ قَهَرَتْهُمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْقَهْرِ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا عِوَضُهُ، لَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى. وَالْآيَةُ، قَالَ قَتَادَةُ: تُبِيحُ رَدَّ الْمَهْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُعْمَلُ بِهَا الْيَوْمَ. وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، حِينَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ لَهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، فَلَمَّا مَنَعَ اللَّهُ رَدَّ النِّسَاءِ، أَمَرَ بِرَدِّ مُهُورِهِنَّ، وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، فَلَيْسَ هُوَ مَعْنَى مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ. وَإِنْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا شَرَطَ رَدَّ النِّسَاءِ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَهُ، كَانَ صَحِيحًا، وَقَدْ نُسِخَ، فَإِذَا شُرِطَ الْآنَ كَانَ بَاطِلًا، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا إلْحَاقُهُ بِهِ. [فَصْلٌ الشُّرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ] (7597) فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ صَحِيحٌ؛ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ مَالًا، أَوْ مَعُونَةَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الرِّجَالِ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ. فَهَذَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ شَرْطُ رَدِّ الْمُسْلِمِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيه وَتَمْنَعُهُ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَوَفَّى لَهُمْ بِهِ، فَرَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَأَبَا بَصِيرٍ» ، وَلَمْ يَخُصَّ بِالشَّرْطِ ذَا الْعَشِيرَةِ، وَلِأَنَّ ذَا الْعَشِيرَةِ إذَا كَانَتْ عَشِيرَتُهُ هِيَ الَّتِي تَفْتِنُهُ وَتُؤْذِيه، فَهُوَ كَمَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَتَعَيُّنِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَمَتَى شَرَطَ لَهُمْ ذَلِكَ، لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا فِي طَلَبِهِ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ أَخْذَهُ، وَلَا يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى الْمُضِيِّ مَعَهُمْ. وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ سِرًّا بِالْهَرَبِ مِنْهُمْ، وَمُقَاتَلَتِهِمْ «، فَإِنَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَقَدْ عَلِمْت مَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا. فَلَمَّا رَجَعَ مَعَ الرَّجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا فِي طَرِيقِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، قَدْ رَدَدْتنِي إلَيْهِمْ، فَأَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلُمْهُ، بَلْ قَالَ: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَبُو بَصِيرٍ، لَحِقَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَانْحَازَ إلَيْهِ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، فَجَعَلُوا لَا تَمُرُّ عَلَيْهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ إلَّا عَرَضُوا لَهَا، فَأَخَذُوهَا، وَقَتَلُوا مَنْ مَعَهَا، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ، إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، أَنْ يَضُمَّهُمْ إلَيْهِ، وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِمْ أَحَدًا جَاءَهُ، فَفَعَلَ. فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنْ يَتَحَيَّزُوا نَاحِيَةً، وَيَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفَّارِ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِي الصُّلْحِ. وَإِنْ ضَمَّهُمْ الْإِمَامُ إلَيْهِ بِإِذْنِ الْكُفَّارِ، دَخَلُوا فِي الصُّلْحِ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ قَتْلُ الْكُفَّارِ وَأَمْوَالُهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ إلَى النَّبِيِّ هَارِبًا مِنْ الْكُفَّارِ، يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، قَامَ إلَيْهِ أَبُوهُ فَلَطَمَهُ، وَجَعَلَ يَرُدُّهُ، قَالَ عُمَرُ: فَقُمْت إلَى جَانِبِ أَبِي جَنْدَلٍ، فَقُلْت: إنَّهُمْ الْكُفَّارُ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ. وَجَعَلْت أُدْنِي مِنْهُ قَائِمَ السَّيْفِ لَعَلَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ. الثَّانِي، شَرْطٌ فَاسِدٌ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ رَدَّ النِّسَاءِ، أَوْ مُهُورِهِنَّ، أَوْ رَدَّ سِلَاحِهِمْ، أَوْ إعْطَاءَهُمْ شَيْئًا مِنْ سِلَاحِنَا، أَوْ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ مَالًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ، أَوْ يَشْتَرِطَ نَقْضَهَا مَتَى شَاءُوا، أَوْ أَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَقْضًا، أَوْ يَشْتَرِطَ رَدَّ الصِّبْيَانِ، أَوْ رَدَّ الرِّجَالِ، مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ، لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، إلَّا فِيمَا إذَا شَرَطَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَقْضَهَا مَتَى شَاءَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ طَائِفَةَ الْكُفَّارِ يَبْنُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْهُمْ، وَلَا أَمْنُهُمْ مِنَّا، فَيَفُوتُ مَعْنَى الْهُدْنَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ شَرْطُ رَدِّ النِّسَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ مَنَعَ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ» . وَتُفَارِقُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا أَنَّهَا لَا تَأْمَنُ مِنْ أَنْ تُزَوَّجَ كَافِرًا يَسْتَحِلُّهَا، أَوْ يُكْرِهُهَا مَنْ يَنَالُهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . الثَّانِي، أَنَّهَا رُبَّمَا فُتِنَتْ عَنْ دِينِهَا؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ قَلْبًا، وَأَقَلُّ مَعْرِفَةً مِنْ الرَّجُلِ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُمْكِنُهَا فِي الْعَادَةِ الْهَرَبُ وَالتَّخَلُّصُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ. وَلَا يَجُوزُ رَدُّ الصِّبْيَانِ الْعُقَلَاءِ إذَا جَاءُوا مُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي الضَّعْفِ فِي الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْعَجْزِ عَنْ التَّخَلُّصِ وَالْهَرَبِ. فَأَمَّا الطِّفْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ، فَيَجُوزُ رَدُّهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. [فَصْلٌ طَلَبَتْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ الْخُرُوجَ مِنْ عِنْد الْكُفَّارِ] (7598) فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَبَتْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ، الْخُرُوجَ مِنْ عِنْدِ الْكُفَّارِ، جَازَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ إخْرَاجُهَا؛ لِمَا رُوِيَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَقَفَتْ ابْنَةُ حَمْزَةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا مَرَّ بِهَا عَلِيٌّ قَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ، إلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ فَتَنَاوَلَهَا، فَدَفَعَهَا إلَى فَاطِمَةَ، حَتَّى قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ» . [مَسْأَلَة الْإِمَامُ يَسْتَأْجِرُ قَوْمًا يَدْخُلُ بِهِمْ بِلَادَ الْعَدُوِّ] (7599) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْأَمِيرُ قَوْمًا يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَنَافِعِهِمْ، لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَأُعْطُوا مَا اُسْتُؤْجِرُوا بِهِ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، فَقَالَ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ، فِي الْإِمَامِ يَسْتَأْجِرُ قَوْمًا يَدْخُلُ بِهِمْ بِلَادَ الْعَدُوِّ: لَا يُسْهِمُ لَهُمْ، وَيُوفِي لَهُمْ بِمَا اُسْتُؤْجِرُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، كَالْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ. أَمَّا الرِّجَالُ الْمُسْلِمُونَ الْأَحْرَارُ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ يَتَعَيَّنُ بِحُضُورِهِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْغَزْوِ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ» . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي، وَيَأْخُذُونَ الْجُعْلَ، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، مَثَلُ أُمِّ مُوسَى، تُرْضِعُ وَلَدَهَا، وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» . وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، فَصَحَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَصَحَّ أَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ. وَيُفَارِقُ الْحَجَّ، حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَيْهِ تَعْطِيلٌ لَهُ، وَمَنْعٌ لَهُ مِمَّا فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْعٌ، وَبِهِمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، بِخِلَافِ الْحَجِّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ يَرُدُّهَا، وَلَهُ سَهْمُهُ؛ لِأَنَّ غَزْوَهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ غَزْوَهُ بِعِوَضٍ، فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبَّهٍ، قَالَ: «أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَزْوِ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَيْسَ لِي خَادِمٌ، فَالْتَمَسْت أَجِيرًا يَكْفِينِي، وَأُجْرِي لَهُ سَهْمَهُ، فَوَجَدْت رَجُلًا، فَلَمَّا دَنَا الرَّحِيلُ، قَالَ: مَا أَدْرِي مَا السُّهْمَانُ وَمَا يَبْلُغُ سَهْمِي، فَسَمِّ لِي شَيْئًا كَانَ السَّهْمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَسَمَّيْت لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ أَرَدْت أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ، فَذَكَرْت الدَّنَانِيرَ، فَجِئْت إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْت لَهُ أَمْرَهُ، فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي سَمَّى» . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ. قَالَ: وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لِلْأَجِيرِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، أَنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فَلَهُ السَّهْمُ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَقَوْلِ عُمَرَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَلِأَنَّهُ حَاضِرٌ لِلْوَقْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَغَيْرِ الْأَجِيرِ. فَأَمَّا الَّذِينَ يُعْطُونَ مِنْ حَقِّهِمْ مِنْ الْفَيْءِ، فَلَهُمْ سِهَامُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ لِيَغْزُوَ، لَا أَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ جِهَادِهِ، بَلْ نَفْعُ جِهَادِهِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَهُمْ الَّذِينَ إذَا نَشِطُوا لِلْغَزْوِ أُعْطُوا، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَعُونَةً، لَا عِوَضًا، وَلِذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى الْغُزَاةِ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ، وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ، كَانَ لَهُ فِيهِ الثَّوَابُ، وَلَمْ يَكُنْ عِوَضًا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» . [فَصْلٌ الْمُسْتَأْجَر عَلَى خِدْمَةِ الْقَوْمِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ] (7600) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَجِيرُ لِلْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ، أَوْ الَّذِي يُكْرِي دَابَّةً لَهُ، وَيَخْرُجُ مَعَهَا، وَيَشْهَدُ الْوَقْعَةَ، فَعَنْ أَحْمَدْ، فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا سَهْمَ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، قَالَا: الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى خِدْمَةِ الْقَوْمِ لَا سَهْمَ لَهُ. وَوَجْهُهُ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ. وَالثَّانِيَةُ، يُسْهَمُ لَهُمَا، إذَا شَهِدَا الْقِتَالَ مَعَ النَّاسِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ إذَا قَاتَلَ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخِدْمَةِ فَلَا سَهْمَ لَهُ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِحَدِيثِ «سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا لِطَلْحَةَ حِينَ أَدْرَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُيَيْنَةَ، حِينَ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ» . وَقَالَ الْقَاضِي: يُسْهَمُ لَهُ إذَا كَانَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ، وَقَصْدُهُ الْجِهَادَ، فَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُسْهَمُ لَهُ إذَا قَاتَلَ، وَيُرْفَعُ عَمَّنْ اسْتَأْجَرَهُ نَفَقَةُ مَا اشْتَغَلَ عَنْهُ. [فَصْلٌ التَّاجِر وَالْأَجِيرُ إذَا كَانَا مَعَ الْمُجَاهِدِينَ] (7601) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّاجِرُ وَالصَّانِعُ، كَالْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ وَالْبَيْطَارِ وَالْحَدَّادِ وَالْإِسْكَافِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُسْهَمُ لَهُمْ إذَا حَضَرُوا. قَالَ أَصْحَابُنَا: قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. وَبِهِ قَالَ فِي التَّاجِرِ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْهَمُ لَهُمْ، إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا. وَعَنْهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ بِحَالٍ. قَالَ الْقَاضِي، فِي التَّاجِرِ وَالْأَجِيرِ: إذَا كَانَا مَعَ الْمُجَاهِدِينَ، وَقَصْدُهُمَا الْجِهَادُ، وَإِنَّمَا مَعَهُ الْمَتَاعُ إنْ طُلِبَ مِنْهُ بَاعَهُ، وَالْأَجِيرُ قَصْدُهُ الْجِهَادُ أَيْضًا، فَهَذَانِ يُسْهَمُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا غَازِيَانِ، وَالصُّنَّاعُ بِمَنْزِلَةِ التُّجَّارِ، مَتَى كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتَالِ، وَمَعَهُمْ السِّلَاحُ، فَمَتَى عَرَضَ اشْتَغَلُوا بِهِ، أُسْهِمَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْجِهَادِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ. [فَصْلٌ دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَغَنِمُوا] (7602) فَصْلٌ: إذَا دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ، بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَغَنِمُوا، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، أَنَّ غَنِيمَتَهُمْ كَغَنِيمَةِ غَيْرِهِمْ، يُخَمِّسُهُ الْإِمَامُ، وَيَقْسِمُ بَاقِيه بَيْنَهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . الْآيَةَ. وَالْقِيَاسُ عَلَى مَا إذَا دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَالثَّانِيَةُ، هُوَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ جِهَادٍ، فَكَانَ لَهُمْ أَشْبَهَ الِاحْتِطَابَ، فَإِنَّ الْجِهَادَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ مِنْ طَائِفَةٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ، فَأَمَّا هَذَا فَتَلَصُّصٌ وَسَرِقَةٌ وَمُجَرَّدُ اكْتِسَابٍ. وَالثَّالِثَةُ، أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي عَبْدٍ أَبَقَ إلَى الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ مَتَاعٌ: فَالْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ، وَمَا مَعَهُ مِنْ الْمَتَاعِ وَالْمَالِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ بِفِعْلِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ. وَالْأُولَى أَوْلَى قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا أَقْفَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ مَعَ مَسْلَمَةَ، كُسِرَ مَرْكَبُ بَعْضِهِمْ، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ نَاسًا مِنْ الْقِبْطِ، فَكَانُوا خَدَمًا لَهُمْ، فَخَرَجُوا يَوْمًا إلَى عِيدٍ لَهُمْ، وَخَلَّفُوا الْقِبْطَ فِي مَرْكَبِهِمْ، وَشَرِبَ الْآخَرُونَ، وَرَفَعَ الْقِبْطُ الْقَلْعَ وَفِي الْمَرْكَبِ مَتَاعُ الْآخَرِينَ وَسِلَاحُهُمْ، فَلَمْ يَضَعُوا قَلْعَهُمْ حَتَّى أَتَوْا بَيْرُوتَ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيز، فَكَتَبَ عُمَرُ: نَفِّلُوهُمْ الْقَلْعَ وَكُلَّ شَيْءٍ جَاءُوا بِهِ إلَّا الْخُمْسَ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ. وَإِنْ كَانَتْ الطَّائِفَةُ ذَاتَ مَنَعَةٍ، غَزَوْا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِيَةُ، يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ. وَيُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمِيعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ خُمْسٍ؛ لِكَوْنِهِ اكْتِسَابُ مُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ جِهَادٍ. [مَسْأَلَة غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ] (7603) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، حُرِّقَ رَحْلُهُ كُلُّهُ، إلَّا الْمُصْحَفَ، وَمَا فِيهِ رُوحٌ الْغَالُّ: هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يُطْلِعُ الْإِمَامَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضَعُهُ مَعَ الْغَنِيمَةِ، فَحُكْمُهُ أَنْ يُحَرَّقَ رَحْلُهُ كُلُّهُ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَفُقَهَاءُ الشَّامِ، مِنْهُمْ مَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، وَيَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ. وَأُتِيَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِغَالٍّ، فَجَمَعَ مَالَهُ وَأَحْرَقَهُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز حَاضِرٌ ذَلِكَ، فَلَمْ يَعِبْهُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ: السُّنَّةُ فِي الَّذِي يَغُلُّ، أَنْ يُحَرَّقَ رَحْلُهُ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُحَرَّقُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحَرِّقْ» ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً، أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ، فَيُخَمِّسُهُ، وَيَقْسِمُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَقَالَ: سَمِعْت بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا؟ . قَالَ: نَعَمْ قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ . فَاعْتَذَرَ، فَقَالَ: كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ إحْرَاقَ الْمَتَاعِ إضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.» وَلَنَا؛ مَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: دَخَلْت مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ، فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ، وَاضْرِبُوهُ» . قَالَ فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: بِعْهُ، وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَالَّ» . فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَعْتَرِفْ أَنَّهُ أَخَذَ مَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْغُلُولِ، وَلَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَوَانَى فِي الْمَجِيءِ بِهِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ تَائِبًا مُعْتَذِرًا، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَتَمْحُو الْحَوْبَةَ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يُعَدُّ تَضْيِيعًا، كَإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ إذَا خِيفَ الْغَرَقُ، وَقَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ السَّارِقِ، مَعَ أَنَّ الْمَالَ لَا تَكَادُ الْمَصْلَحَةُ تَحْصُلُ بِهِ إلَّا بِذَهَابِهِ، فَأَكْلُهُ إتْلَافُهُ، وَإِنْفَاقُهُ إذْهَابُهُ، وَلَا يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيعًا وَلَا إفْسَادًا، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ. وَأَمَّا الْمُصْحَفُ، فَلَا يُحَرَّقُ؛ لِحُرْمَتِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُحَرَّقُ؛ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا» ، وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَلَا تُحَرَّقُ آلَةُ الدَّابَّةِ أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا يُحَرَّقُ، فَأَشْبَهَ جِلْدَ الْمُصْحَفِ وَكِيسَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحَرَّقُ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مَلْبُوسُ حَيَوَانٍ، فَلَا يُحَرَّقُ، كَثِيَابِ الْغَالِّ. وَلَا تُحَرَّقُ ثِيَابُ الْغَالِّ الَّتِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عُرْيَانًا، وَلَا مَا غَلَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَاَلَّذِي أَصَابَ فِي الْغُلُولِ، أَيَّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: يُرْفَعُ إلَى الْمَغْنَمِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَلَا سِلَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ، وَلَا نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحَرَّقُ عَادَةً، وَجَمِيعُ ذَلِكَ، أَوْ مَا أَبْقَتْ النَّارُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ، وَإِنَّمَا عُوقِبَ بِإِحْرَاقِ مَتَاعِهِ، فَمَا لَمْ يَحْتَرِقْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ، وَيُتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِقَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ الْعِلْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُحَرَّقَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الدِّينِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِضْرَارَ بِهِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ الْإِضْرَارُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ. [فَصْلٌ لَمْ يُحَرَّقْ رَحْلُهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ الْغَنِيمَة] (7604) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يُحَرَّقْ رَحْلُهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ، أَوْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ، أُحْرِقَ مَا كَانَ مَعَهُ حَالِ الْغُلُولِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى بَلَدِهِ. قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُحَرَّقَ مَا كَانَ مَعَهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إحْرَاقِ رَحْلِهِ، لَمْ يُحَرَّقْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالْحُدُودِ، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَإِحْرَاقُهُ عُقُوبَةٌ لِغَيْرِ الْجَانِي. وَإِنْ بَاعَ مَتَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يُحَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لِغَيْرِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْمَوْتِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُنْقَضَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَيُحَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ، كَالْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْجَانِي. [فَصْلٌ عَدَم إحْرَاق مَتَاع الْغَالُّ فِي الْغَنِيمَةِ] (7605) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْغَالُّ صَبِيًّا، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ عُقُوبَةٌ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَشْبَهَ الْحَدَّ. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لِسَيِّدِهِ، فَلَا يُعَاقَبُ سَيِّدُهُ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ. وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَا غَلَّهُ، فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ غَلَّتْ امْرَأَةٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُحْرِقَ مَتَاعُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، وَلِذَلِكَ يُقْطَعَانِ فِي السَّرِقَةِ، وَيُحَدَّانِ فِي الزِّنَى وَغَيْرِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْغُلُولَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ابْتَاعَ مَا بِيَدِهِ، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ، حَتَّى يَثْبُتَ غُلُولُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بِهِ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِذَلِكَ، كَالْحَدِّ، وَلَا يُقْبَلُ فِي بَيِّنَتِهِ إلَّا عَدْلَانِ؛ لِذَلِكَ. (7606) فَصْلٌ: وَلَا يُحْرَمُ الْغَالُّ سَهْمَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُحْرَمُ سَهْمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: يُحْرَمُ سَهْمَهُ. فَإِنْ صَحَّ، فَالْحُكْمُ لَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فِي الصَّبِيِّ يَغُلُّ: يُحْرَمُ سَهْمَهُ، وَلَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ. وَلَنَا، أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مَوْجُودٌ، فَيَسْتَحِقَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِرْمَانُ سَهْمِهِ فِي خَبَرٍ، وَلَا قِيَاسٍ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ، وَلَا يُحَرَّقُ سَهْمُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ رَحْلِهِ. [فَصْلٌ تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ] (7607) فَصْلٌ: إذَا تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمُقْسَمِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إلَى أَهْلِهِ. فَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ خُمُسَهُ إلَى الْإِمَامِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو. عَنْ حَوْشَبِ بْنِ سَيْفٍ، قَالَ: غَزَا النَّاسُ الرُّومَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَغَلَّ رَجُلٌ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَمَّا قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، نَدِمَ، فَأَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: قَدْ غَلَلْت مِائَةَ دِينَارٍ، فَاقْبِضْهَا. قَالَ: قَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ، فَلَنْ أَقْبِضَهَا مِنْك حَتَّى تُوَافِيَ اللَّهَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَتَى مُعَاوِيَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَبْكِي، فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّاعِرِ السَّكْسَكِيِّ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَمُطِيعِي أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى مُعَاوِيَةَ فَقُلْ لَهُ: خُذْ مِنِّي خُمْسَك، فَأَعْطِهِ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَانْظُرْ إلَى الثَّمَانِينَ الْبَاقِيَةِ، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَكَانَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَحْسَنَ وَاَللَّهِ، لَأَنْ أَكُنْ أَنَا أَفْتَيْته بِهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ كُلِّ شَيْءٍ امْتَلَكْت. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ رَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ لِلصَّدَقَةِ وَجْهًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْغَالِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا أَقْبَلُهُ مِنْك، حَتَّى تَجِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلَنَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لَهُ، وَتَعْطِيلٌ لِمَنْفَعَتِهِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَلَا يَتَخَفَّفُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ إثْمِ الْغَالِّ، وَفِي الصَّدَقَةِ نَفْعٌ لِمَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمَسَاكِينِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ يَصِلُ إلَى صَاحِبِهِ، فَيَذْهَبُ بِهِ الْإِثْمُ عَنْ الْغَالِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى. [مَسْأَلَة لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ] (7608) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَتَى حَدًّا مِنْ الْغُزَاةِ، أَوْ مَا يُوجِبُ قِصَاصًا، فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْفِلَ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّهُ. وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقَامُ الْحَدُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ أَمِيرُ الْجَيْشِ الْإِمَامَ، أَوْ أَمِيرَ إقْلِيمٍ، فَلَيْسَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ، وَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى الْمَحْدُودِ، أَوْ قُوَّةٌ بِهِ، أَوْ شُغْلٌ عَنْهُ، أُخِّرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ وَلَا قِصَاصَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا إذَا رَجَعَ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ، أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِهِ، وَعَلَى تَأْخِيرِهِ، مَا رَوَى بِشْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ، أَنَّهُ أُتِيَ بَرْجَلٍ فِي الْغَزَاةِ قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزَاةِ» لَقَطَعْتُك. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى النَّاسِ، أَنْ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا، وَهُوَ غَازٍ، حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا؛ لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنَّا فِي جَيْشٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَلَيْنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَحُدَّهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَتَحُدُّونَ أَمِيرَكُمْ وَقَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَيَطْمَعُوا فِيكُمْ. وَأُتِيَ سَعْدٌ بِأَبِي مِحْجَنٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ إلَى الْقَيْدِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: كَفَى حَزَنًا أَنْ تُطْرَدَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا وَقَالَ لِابْنَةِ حَفْصَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ: أَطْلِقِينِي، وَلَك اللَّهُ عَلَيَّ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، فَإِنْ قُتِلْت، اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي. قَالَ: فَحَلَّتْهُ حِينَ الْتَقَى النَّاسُ، وَكَانَتْ بِسَعْدٍ جِرَاحَةٌ، فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ إلَى النَّاسِ. قَالَ: وَصَعِدُوا بِهِ فَوْقَ الْعُذَيْبِ يَنْظُرُ إلَى النَّاسِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ، فَوَثَبَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَال لَهَا الْبَلْقَاءُ، ثُمَّ أَخَذَ رُمْحًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَجَعَلَ لَا يَحْمِلُ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْعَدُوِّ إلَّا هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ يَصْنَعُ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: الضَّبْرُ ضَبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالطَّعْنُ طَعْنُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ. فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الْقَيْدِ. فَأَخْبَرَتْ ابْنَةُ حَفْصَةَ سَعْدًا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: لَا وَاَللَّهِ، لَا أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلًا أَبْلَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ مَا أَبْلَاهُمْ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ. فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: قَدْ كُنْت أَشْرَبُهَا إذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ وَأَطْهُرُ مِنْهَا، فَأَمَّا إذَا بَهْرَجَتْنِي، فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا. وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ. فَأَمَّا إذَا رَجَعَ، فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ؛ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، كَمَا يُؤَخَّرُ لِمَرَضٍ أَوْ شُغْلٍ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ، أُقِيمَ الْحَدُّ، لِوُجُودِ مُقْتَضِيه، وَانْتِفَاءِ مُعَارِضِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا. [فَصْلٌ تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الثُّغُورِ] (7609) فَصْلٌ: وَتُقَامُ الْحُدُودُ فِي الثُّغُورِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى زَجْرِ أَهْلِهَا، كَالْحَاجَةِ إلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، أَنْ يَجْلِدَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثَمَانِينَ، وَهُوَ بِالشَّامِ، وَهُوَ مِنْ الثُّغُورِ. [مَسْأَلَة الْإِمَامَ إذَا ظَفِرَ بِالْكُفَّارِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ] (7610) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَإِذَا فُتِحَ حِصْنٌ، لَمْ يُقْتَلْ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ، أَوْ يُنْبِتْ، أَوْ يَبْلُغْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا ظَفِرَ بِالْكُفَّارِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ، فَفِي قَتْلِهِ إتْلَافُ الْمَالِ، وَإِذَا سُبِيَ مُنْفَرِدًا صَارَ مُسْلِمًا، فَإِتْلَافُهُ إتْلَافُ مَنْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُسْلِمًا، وَالْبُلُوغُ يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، الِاحْتِلَامُ، وَهُوَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ أَوْ قُبُلِ الْأُنْثَى فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» . وَقَالَ لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. الثَّانِي، إنْبَاتُ الشَّعْرِ الْخَشِنِ حَوْلَ الْقُبُلِ، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى «عَطِيَّةُ الْقُرَظِيّ، قَالَ: كُنْت مِنْ سَبْيِ قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْت فِي مَنْ لَمْ يُنْبِتْ» . أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: «حَدَّثَنِي أَبْنَاءُ قُرَيْظَةَ، أَنَّهُمْ عُرِضُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُحْتَلِمًا أَوْ نَبَتَتْ عَانَتُهُ قُتِلَ، وَمَنْ لَا، تُرِكَ.» أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ. وَعَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْتُبُ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَنْ لَا يَقْتُلُوا إلَّا مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَلَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَةَ إلَّا مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ هَذَا بُلُوغٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِمْ فِي الِاحْتِلَامِ، وَعَدَدِ السِّنِينَ، وَلَيْسَ بِعَلَامَةٍ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِمْ. وَلَنَا، قَوْلُ أَبِي نَضْرَةَ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، حِينَ اُخْتُلِفَ فِي بُلُوغِ تَمِيمِ بْنِ فَرْعٍ الْمَهْرِيِّ: اُنْظُرُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ، فَاقْسِمُوا لَهُ. فَنَظَرَ إلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَنْبَتَ، فَقَسَمُوا لَهُ. وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُ هَذَا، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْعَلَمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يُلَازِمُ الْبُلُوغَ غَالِبًا، فَكَانَ عَلَمًا عَلَيْهِ، كَالِاحْتِلَامِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ مَعْرِفَةُ الِاحْتِلَامِ وَالسِّنِّ. قُلْنَا: لَا تَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ السِّنِّ فِي الذِّمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَعَذُّرُ الْمَعْرِفَةِ لَا يُوجِبُ جَعْلَ مَا لَيْسَ بِعَلَامَةٍ، كَغَيْرِ الْإِنْبَاتِ. الثَّالِثُ، بُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْقِتَالِ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ.» قَالَ نَافِعٌ: فَحَدَّثْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: هَذَا فَصْلُ مَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَبَيْنَ الْغِلْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ فِي حَقِّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَزِيدُ الْأُنْثَى بِعَلَامَتَيْنِ؛ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ، فَمَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ عَلَامَةٌ مِنْهُنَّ، فَهُوَ صَبِيٌّ يَحْرُمُ قَتْلُهُ. [فَصْلٌ لَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ وَلَا شَيْخٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ] (7611) فَصْلٌ: وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ، وَلَا شَيْخٌ فَانٍ. وَبِذَلِكَ قَالَ وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] . يَقُولُ: لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَهَذَا عَامٌّ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الشُّيُوخَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْرِفُ حُجَّةً فِي تَرْكِ قَتْلِ الشُّيُوخِ يُسْتَثْنَى بِهَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا نَفْعَ فِي حَيَاتِهِ، فَيُقْتَلُ كَالشَّابِّ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا، وَلَا امْرَأَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فِي سُنَنِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَصَّى يَزِيدَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا هَرِمًا. وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ وَصَّى سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا شَيْخًا هَرِمًا. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَا يُقْتَلْ، كَالْمَرْأَةِ. وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْمَرْأَةِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ هَذِهِ قُتِلَتْ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ» . وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ عُمُومِهَا الْمَرْأَةُ، وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ فِي مَعْنَاهَا، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَأَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ الَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْ مَعُونَةٌ عَلَيْهِ، بِرَأْيِ أَوْ تَدْبِيرٍ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ أَحَادِيثَنَا خَاصَّةٌ فِي الْهَرِمِ، وَحَدِيثَهُمْ عَامٌّ فِي الشُّيُوخِ كُلِّهِمْ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْعَجُوزِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا. [فَصْلٌ لَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ فِي دَار الْحَرْب] (7612) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ، وَالْخِلَافُ فِيهِمْ كَالْخِلَافِ فِي الشَّيْخِ، وَحُجَّتُهُمْ هَا هُنَا حُجَّتُهُمْ فِيهِ. وَلَنَا، فِي الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى، أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَأَشْبَهَا الْمَرْأَةَ، وَفِي الرَّاهِبِ، مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ، قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَدَعُوهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمْ اللَّهُ عَلَى ضَلَالِهِمْ» . وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ تَدَيُّنًا، فَأَشْبَهُوا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ. [فَصْلٌ لَا يُقْتَلُ الْعَبِيدُ فِي دَار الْحَرْب] (7613) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ الْعَبِيدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدْرِكُوا خَالِدًا، فَمُرُوهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ ذُرِّيَّةً، وَلَا عَسِيفًا» . وَهُمْ الْعَبِيدُ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ السَّبْيِ، فَأَشْبَهُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ. [فَصْلٌ جَازَ قَتْلُ أَصْحَابِ الْعَاهَاتِ إذَا كَانَ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْب] (7614) فَصْلٌ: وَمَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا جَمِيعِهِمْ، جَازَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَتَلَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ امْرَأَةً أَلْقَتْ رَحًى عَلَى مَحْمُودِ بْنِ سَلَمَةَ» . وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الْمَذْكُورِينَ ذَا رَأْيٍ يُعِينُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، جَازَ قَتْلُهُ «؛ لِأَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَهُوَ شَيْخٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، وَكَانُوا خَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، يَتَيَمَّنُونَ بِهِ، وَيَسْتَعِينُونَ بِرَأْيِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَهُ.» وَلِأَنَّ الرَّأْيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَعُونَةِ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ وَالْأَسْوَدِ: أَمْدَدْتُمَا عَلِيًّا بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَبِرَأْيِهِ وَمُكَايَدَتِهِ، فَوَاَللَّهِ لَوْ أَنَّكُمَا أَمْدَدْتُمَاهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، مَا كَانَ بِأَغْيَظَ لِي مِنْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة قِتَال النِّسَاءِ أَوْ الْمَشَايِخِ أَوْ الرُّهْبَان فِي الْمَعْرَكَة] مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ النِّسَاءِ أَوْ الْمَشَايِخِ أَوْ الرُّهْبَانِ فِي الْمَعْرَكَةِ قُتِلَ) لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: نَازَعَتْنِي قَائِمَ سَيْفِي قَالَ: فَسَكَتَ» «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، فَقَالَ: مَا بَالُهَا قُتِلَتْ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تُقَاتِلْ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا لَمْ يُقْتَلُوا لِأَنَّهُمْ فِي الْعَادَةِ لَا يُقَاتِلُونَ. [فَصْل قِتَال الْمَرِيض فِي الْمَعْرَكَة] (7616) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَيُقْتَلُ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا قَاتَلَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الزَّمِنِ، لَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يُقَاتِلُ فِيهَا. [فَصْلٌ قِتَال الْحَرَّاثُ فِي الْمَعْرَكَة] (7617) فَصْلٌ فَأَمَّا الْفَلَّاحُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ، الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمْ الْحَرْبَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ، إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقْتَلُ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ وَأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتُلُوهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ، فَأَشْبَهُوا الشُّيُوخَ وَالرُّهْبَانَ. [فَصْلٌ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا] (7618) فَصْلٌ: إذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا، لَزِمَتْهُ مُصَابَرَتُهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِخُصْلَةٍ مِنْ خِصَالٍ خَمْسٍ أَحَدِهَا، أَنْ يُسْلِمُوا، فَيُحْرِزُوا بِالْإِسْلَامِ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ، وَيَرِقُّونَ. الثَّانِيَةُ، أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمُوَادَعَةِ، فَيَجُوزُ قَبُولُهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ أَعْطَوْهُ جُمْلَةً أَوْ جَعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ، فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَبَذَلُوهَا، لَزِمَهُ قَبُولُهَا مِنْهُمْ، وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَإِنْ بَذَلُوا مَالًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْجِزْيَةِ، فَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي قَبُولِهِ، قَبِلَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ إذَا لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ. الثَّالِثَةُ، أَنْ يَفْتَحَهُ. الرَّابِعَةُ، أَنْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إمَّا لِضَرَرٍ فِي الْإِقَامَةِ، وَإِمَّا لِلْيَأْسِ مِنْهُ، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ يَنْتَهِزُهَا تَفُوتُ بِإِقَامَتِهِ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: إنَّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: أَنَرْجِعُ عَنْهُ وَلَمْ نَفْتَحْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَصَابَهُمْ الْجِرَاحُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا قَافِلُونَ غَدًا. فَأَعْجَبَهُمْ، فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْخَامِسَةُ، أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَيَجُوزُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، رَضُوا بِأَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ» وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا، صِفَةُ الْحَاكِمِ. وَالثَّانِي، صِفَةُ الْحُكْمِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ، أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ حُرًّا، مُسْلِمًا، عَاقِلًا، بَالِغًا، ذَكَرًا، عَدْلًا، فَقِيهًا، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى، لِأَنَّ عَدَمَ الْبَصَرِ لَا يَضُرُّ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَأْيُهُ، وَمَعْرِفَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْبَصَرِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْبَصَرِ، لِيَعْرِفَ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْفِقْهِ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ، مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَا يُعْتَبَرُ فِقْهُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا لِهَذَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَإِذَا حَكَّمُوا رَجُلَيْنِ جَازَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ جَعَلُوا الْحُكْمَ إلَى رَجُلٍ يُعَيِّنُهُ الْإِمَامُ، جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَوْ جَعَلُوا التَّعْيِينَ إلَيْهِمْ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اخْتَارُوا مَنْ لَا يَصْلُحُ، وَإِنْ عَيَّنُوا رَجُلًا يَصْلُحُ، فَرَضِيَهُ الْإِمَامُ، جَازَ، لِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ رَضُوا بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَيَّنُوهُ، فَرَضِيَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَازَ حُكْمَهُ. وَقَالَ «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ» وَإِنْ مَاتَ مَنْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ، قَامَ مُقَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مُقَامَهُ، أَوْ طَلَبُوا حَكَمًا لَا يَصْلُحُ، رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ، وَكَانُوا عَلَى الْحِصَارِ حَتَّى يَتَّفِقُوا، وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِاثْنَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، جَازَ، وَإِلَّا رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِتَحْكِيمِ مَنْ لَمْ تَجْتَمِعْ الشَّرَائِطُ فِيهِ، وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ، لَمْ يُحَكَّمْ، وَيُرَدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ كَمَا كَانُوا. وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ، فَإِنْ حَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، نُفِّذَ حُكْمُهُ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُ حُكْمُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ إلَيْهِ فِيمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ الْمَنُّ، كَالْإِمَامِ فِي الْأَسِيرِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ، وَلَا حَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنِّ وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْمَنَّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إذَا سُبُوا فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَيَّنْ السَّبْيُ فِيهِمْ، بِخِلَافِ مَنْ سُبِيَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ جَازَ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ. فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ، لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّرَاضِي، وَلِذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ إجْبَارَ الْأَسِيرِ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَإِنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ جَازَ لِلْإِمَامِ الْمَنُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، «لِأَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، مِنْ قُرَيْظَةَ، وَمَالِهِ، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَهُ» . وَيُخَالِفُ مَالَ الْغَنِيمَةِ إذَا حَازَهُ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ مِلْكَهُمْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهُمْ أَحْرَارٌ، وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ، بِخِلَافِ الْأَسِيرِ، فَإِنَّ الْأَسِيرَ قَدْ ثَبَتَتْ الْيَدُ عَلَيْهِ، كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، فَلِذَلِكَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ. وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ، سَقَطَ، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ، وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى مَا حَكَمَ فِيهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَانَ غَنِيمَةً، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِالْقَهْرِ وَالْحَصْرِ. [مَسْأَلَةٌ الْأَسِيرَ إذَا خَلَّاهُ الْكُفَّارُ وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ] (7619) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَإِذَا خُلِّيَ الْأَسِيرُ مِنَّا، وَحَلَفَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِشَيْءٍ يُعَيِّنُهُ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا خَلَّيْهِ الْكُفَّارُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ، نَظَرْت، فَإِنْ أَكْرَهُوهُ بِالْعَذَابِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ بِرُجُوعٍ وَلَا فِدَاءٍ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، أَيْضًا: لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] «وَلَمَّا صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا وَفَّى لَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ: إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» وَلِأَنَّ فِي الْوَفَاءِ مَصْلَحَةً لِلْأُسَارَى، وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَمَّنُونَ بَعْدَهُ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ، وَلِأَنَّهُ عَاهَدَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالْمَشْرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ، وَمَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ بِمَا إذَا شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، أَوْ شَرَطَ لَهُمْ مَالًا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ. فَأَمَّا إنْ عَجَزَ عَنْ الْفِدَاءِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمُفَادَى امْرَأَةً، لَمْ تُرْجَعْ إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ رَدَّ النِّسَاءِ إلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ صُلْحِهِ عَلَى رَدِّهِنَّ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِيهَا: فَجَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرُدُّوهُنَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، لَا يُرْجَعُ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ مَعْصِيَةٌ فَلَمْ يَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، كَمَا لَوْ كَانَ امْرَأَةً، وَكَمَا لَوْ شَرَطَ قَتْلَ مُسْلِمٍ، أَوْ شُرْبَ الْخَمْرِ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَعْثِ الْفِدَاءِ «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَاهَدَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ وَقَالَ: إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» وَفَارَقَ رَدَّ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ، حِينَ صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا، فَأَمْضَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ، وَنَسَخَهُ فِي النِّسَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ تَقَدَّمَتْ. [فَصْلٌ أَطْلَقُوهُ وَآمَنُوهُ السَّبْي] (7620) فَصْلٌ: فَإِنْ أَطْلَقُوهُ وَآمَنُوهُ، صَارُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ لِأَنَّ أَمَانَهُمْ لَهُ يَقْتَضِي سَلَامَتَهُمْ مِنْهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمُضِيُّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَقَامَ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ، فَأَدْرَكُوهُ وَتَبِعُوهُ، قَاتَلَهُمْ، وَبَطَلَ الْأَمَانُ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْمُقَامَ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، فَأَمَّا إنْ أَطْلَقُوهُ وَلَمْ يُؤَمِّنُوهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا قَدَرَ، عَلَيْهِ وَيَسْرِقَ وَيَهْرَبَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَمِّنْهُمْ وَلَمْ يُؤَمِّنُوهُ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ، وَشَرَطُوا عَلَيْهِ الْمُقَامَ عِنْدَهُمْ، لَزِمَهُ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَلْزَمُهُ فَأَمَّا إنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ رَقِيقٌ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ أَنْ يَسْرِقَ وَيَهْرَبَ وَيَقْتُلَ، لِأَنَّ كَوْنَهُ رَقِيقًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْتَضِ أَمَانًا لَهُ مِنْهُمْ، وَلَا لَهُمْ مِنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ أَحَلَفُوا عَلَى هَذَا، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْيَمِينِ، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا فَحَنِثَ، كَفَّرَ يَمِينَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِقَامَةُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُلْزِمُهُ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. [فَصْلٌ شِرَاء الْأَسِير وَاقْتِرَاضه] (7621) فَصْلٌ: وَإِنْ اشْتَرَى الْأَسِيرُ شَيْئًا مُخْتَارًا، أَوْ اقْتَرَضَهُ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُ الْأَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا، لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ أَكْرَهُوهُ عَلَى قَبْضِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِمْ إنْ كَانَ بَاقِيًا، لِأَنَّهُمْ دَفَعُوهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِاخْتِيَارِهِ، ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ لَزِمَهُ رَدُّهَا، لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، وَإِنْ عَدِمَتْ الْعَيْنُ، رَدَّ قِيمَتَهَا. [مَسْأَلَةٌ لِلْمُسْلِمِ الْهَرَبُ مِنْ الْكَافِرِ إذَا خَشِيَ الْأَسْرِ فِي الْحَرْبِ] (7622) مَسْأَلَةٌ قَالَ (وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْرَبَ مِنْ كَافِرَيْنِ، وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنْ خَشِيَ الْأَسْرَ، قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وَجَبَ الثَّبَاتُ، وَحَرُمَ الْفِرَارُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] « وَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، فَعَدَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ» . وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً وَلَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا، وَالْأَمْرُ مُطْلَقٌ وَخَبَرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامٌّ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ وَالتَّخْصِيصُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الثَّبَاتُ بِشَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ زَادُوا عَلَيْهِ جَازَ الْفِرَارُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] . وَهَذَا إنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ، فَهُوَ أَمْرٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] وَلَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَمْ يَكُنْ رَدُّنَا مِنْ غَلَبَةِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إلَى غَلَبَةِ الِاثْنَيْنِ تَخْفِيفًا، وَلِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الظَّفَرَ وَالْغَلَبَةَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ يَكُونُ الْعَدُوُّ فِيهِ ضِعْفَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا دُونَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ وَفَرْضٌ، وَلَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يَنْسَخُ هَذِهِ الْآيَةَ، لَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ تَخْفِيفٌ فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] /إلَى قَوْلِهِ: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعَدَدِ، نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ مِنْ الْعَدَدِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ، فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَرَّ الثَّانِي، أَنْ لَا يَقْصِدَ بِفِرَارِهِ التَّحَيُّزَ إلَى فِئَةٍ، وَلَا التَّحَرُّفَ لِقِتَالٍ، فَإِنْ قَصَدَ أَحَدَ هَذَيْنِ، فَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] . وَمَعْنَى التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ، أَنْ يَنْحَازَ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ الْقِتَالُ فِيهِ أَمْكَنَ، مِثْلُ أَنْ يَنْحَازَ مِنْ مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ، أَوْ الرِّيحِ إلَى اسْتِدْبَارِهِمَا أَوْ مِنْ نَزْلَةٍ إلَى عُلُوٍّ، أَوْ مِنْ مَعْطَشَةٍ إلَى مَوْضِعِ مَاءٍ، أَوْ يَفِرَّ بَيْنَ أَيْدِيهمْ لِتَنْتَقِضَ صُفُوفُهُمْ، أَوْ تَنْفَرِدَ خَيْلُهُمْ مِنْ رَجَّالَتِهِمْ، أَوْ لِيَجِدَ فِيهِمْ فُرْصَةً، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إلَى جَبَلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ إذْ قَالَ: يَا سَارِيَةُ بْنُ زُنَيْمٍ، الْجَبَلَ، ظَلَمَ الذِّئْبَ مَنْ اسْتَرْعَاهُ الْغَنَمَ. فَأَنْكَرَهَا النَّاسُ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دَعُوهُ. فَلَمَّا نَزَلَ سَأَلُوهُ عَمَّا قَالَ، فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ سَارِيَةَ إلَى نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ لِغَزْوِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ ذَلِكَ الْجَيْشُ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ يَوْمَ جُمُعَةَ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، فَسَمِعُوا صَوْتَ عُمَرَ فَتَحَيَّزُوا إلَى الْجَبَلِ، فَنَجَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَمَّا التَّحَيُّزُ إلَى فِئَةٍ، فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونَ مَعَهُمْ، فَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَسَوَاءٌ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْ كَانَتْ الْفِئَةُ بِخُرَاسَانَ. وَالْفِئَةُ بِالْحِجَازِ، جَازَ التَّحَيُّزُ إلَيْهَا وَنَحْوَهُ ذَكَرَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنِّي فِئَةٌ لَكُمْ وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنْهُ» وَقَالَ عُمَرُ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُيُوشُهُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانِ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَقَالَ عُمَرُ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ لَوْ كَانَ تَحَيَّزَ إلَيَّ لَكُنْت لَهُ فِئَةً وَإِذَا خَشِيَ الْأَسْرَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَا يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ، لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ. وَإِنْ اسْتَأْسَرَ جَازَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَشَرَةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَنَفَرَتْ إلَيْهِمْ هُذَيْلٌ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إلَى فَدَدٍ فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا فَأَعْطُونَا مَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لَا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا فَقَالَ عَاصِمٌ:. أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ مَعَهُ، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَعَاصِمٌ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ، وَخُبَيْبٌ وَزَيْدٌ أَخَذَا بِالرُّخْصَةِ، وَكُلُّهُمْ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَلَا مَلُومٍ. [فَصْلٌ كَانَ الْعَدُوّ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ] (7623) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ الثَّبَاتُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَإِنْ انْصَرَفُوا جَازَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ الْعَطَبَ وَالْحُكْمُ عُلِّقَ عَلَى مَظِنَّتِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عَدَدِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَزِمَهُمْ الثَّبَاتُ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمْ الثَّبَاتُ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الظَّفَرُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِي الْإِقَامَةِ، وَالنَّجَاةُ فِي الِانْصِرَافِ فَالْأَوْلَى لَهُمْ الِانْصِرَافُ، وَإِنْ ثَبَتُوا جَازَ، لِأَنَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي الشَّهَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا أَيْضًا وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِي الْإِقَامَةِ وَالِانْصِرَافِ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ الثَّبَاتُ، لِيَنَالُوا دَرَجَةَ الشُّهَدَاءِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الْقِتَالِ مُحْتَسَبِينَ، فَيَكُونُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُوَلِّينَ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا أَيْضًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وَلِذَلِكَ صَبَرَ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَاتَلُوا حَتَّى أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ. [فَصْلٌ جَاءَ الْعَدُوُّ بَلَدًا فَلِأَهْلِهِ التَّحَصُّنُ مِنْهُمْ] (7624) فَصْلٌ: فَإِنْ جَاءَ الْعَدُوُّ بَلَدًا، فَلِأَهْلِهِ التَّحَصُّنُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِمْ لِيَلْحَقَهُمْ مَدَدٌ أَوْ قُوَّةٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَوَلِّيًا وَلَا فِرَارًا، إنَّمَا التَّوَلِّي بَعْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَإِنْ لَقُوهُمْ خَارِجَ الْحِصْنِ فَلَهُمْ التَّحَيُّزُ إلَى الْحِصْنِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ، أَوْ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ. وَإِنْ غَزَوْا فَذَهَبَتْ دَوَابُّهُمْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفِرَارِ، لِأَنَّ الْقِتَالَ مُمْكِنٌ لِلرَّجَّالَةِ وَإِنْ تَحَيَّزُوا إلَى جَبَلٍ لِيُقَاتِلُوا فِي رَجَّالَةٍ، فَلَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ تَحَرُّفٌ لِلْقِتَالِ وَإِنْ ذَهَبَ سِلَاحُهُمْ، فَتَحَيَّزُوا إلَى مَكَان يُمْكِنُهُمْ الْقِتَالُ فِيهِ بِالْحِجَارَةِ، وَالتَّسَتُّرُ بِالشَّجَرِ وَنَحْوِهِ أَوْ لَهُمْ فِي التَّحَيُّزِ إلَيْهِ فَائِدَةٌ جَازَ. [فَصْلٌ وَلَّى قَوْمٌ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَأَحْرَزَهَا الْبَاقُونَ] (7625) فَصْلٌ: فَإِنْ وَلَّى قَوْمٌ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَأَحْرَزَهَا الْبَاقُونَ، فَلَا شَيْءَ لِلْفَارِّينَ، لِأَنَّ إحْرَازَهَا حَصَلَ بِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ مِلْكُهَا لِمَنْ أَحْرَزَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ، أَوْ مُتَحَرِّفِينَ لِلْقِتَالِ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ أَيْضًا، لِذَلِكَ وَإِنْ فَرُّوا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمْ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْغَنِيمَةَ بِحِيَازَتِهَا، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمْ عَنْهَا بِفِرَارِهِمْ [فَصْلٌ أَلْقَى الْكُفَّارُ نَارًا فِي سَفِينَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاشْتَعَلَتْ فِيهَا] (7626) فَصْلٌ: فَإِذَا أَلْقَى الْكُفَّارُ نَارًا فِي سَفِينَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاشْتَعَلَتْ فِيهَا، فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ السَّلَامَةُ فِيهِ، مِنْ بَقَائِهِمْ فِي مَرْكَبِهِمْ، أَوْ إلْقَاءِ نُفُوسِهِمْ فِي الْمَاءِ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ فِعْلُهُ، وَإِنْ اسْتَوَى عِنْدَهُمْ الْأَمْرَانِ، فَقَالَ أَحْمَدُ كَيْفَ شَاءَ يَصْنَعُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هُمَا مَوْتَتَانِ، فَاخْتَرْ أَيْسَرَهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْمُقَامُ، لِأَنَّهُمْ إذَا رَمَوْا نُفُوسَهُمْ فِي الْمَاءِ، كَانَ مَوْتُهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَإِنْ أَقَامُوا فَمَوْتُهُمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ أَجَرَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ غَنِمُوا عَلَى حِفْظِ الْغَنِيمَةِ] (7627) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَمَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ، بَعْدَ أَنْ غَنِمُوا، عَلَى حِفْظِ الْغَنِيمَةِ، فَمُبَاحٌ لَهُ مَا أَخَذَ، إنْ كَانَ رَاجِلًا، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَنِيمَةَ إذَا احْتَاجَتْ إلَى مَنْ يَحْفَظُهَا، أَوْ سَوْقِ الدَّوَابِّ الَّتِي هِيَ مِنْهَا، أَوْ يَرْعَاهَا، أَوْ يَحْمِلُهَا، فَإِنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَيُؤَدِّيَ أُجْرَتَهَا مِنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا، فَهُوَ كَعَلَفِ الدَّوَابِّ، وَطَعَامِ السَّبْيِ، وَمَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَهُ أُجْرَتُهُ مُبَاحَةً، لِأَنَّهُ أَجَرَ نَفْسَهُ لِفِعْلٍ بِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ حَاجَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ أُجْرَتُهُ كَمَا لَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ عَلَى الدَّلَالَةِ إلَى الطَّرِيقِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنْ كَانَ رَاجِلًا أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا. فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ لَا يَرْكَبُ مِنْ دَوَابِّ الْمَغْنَمِ، وَلَا فَرَسًا حَبِيسًا. قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَجِّرَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَلَى دَابَّتِهِ وَكَرِهَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْقَوْمَ عَلَى سِبَاقِ الرَّمَكِ عَلَى فَرَسٍ حَبِيسٍ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْفَرَسَ الْمَوْقُوفَةَ لِلْجِهَادِ فِيمَا يَخْتَصُّ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ فَإِنْ أَجَرَ نَفْسَهُ، فَرَكِبَ الدَّابَّةَ الْحَبِيسَ، أَوْ دَابَّةً مِنْ الْمَغْنَمِ، لَمْ تَطِبْ لَهُ أُجْرَةٌ، لِأَنَّ الْمُعِينَ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ يَخْتَصُّ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ دَوَابَّ الْمَغْنَمِ، وَلَا دَوَابَّ الْحَبِيسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ بِقَدْرِ أَجْرِ الدَّابَّةِ، يُرَدُّ فِي الْغَنِيمَةِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْغَنِيمَةِ، أَوْ يُصْرَفَ فِي نَفَقَةِ دَوَابِّ الْحَبِيسِ إنْ كَانَ الْفَرَسُ حَبِيسًا. (7628) فَصْلٌ: فَإِنْ شَرَطَ فِي الْإِجَارَةِ رُكُوبَ دَابَّةٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَةٍ تُدْفَعُ مِنْ الْمَغْنَمِ. وَلَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ بِدَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ، صَحَّ فَإِذَا جَعَلَ أَجْرَهُ رُكُوبَهَا، كَانَ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ إجَارَتِهَا كَوْنَ عِوَضِهَا مَعْلُومًا. وَإِنْ شَرَطَ فِي الْإِجَارَةِ رُكُوبَ دَابَّةٍ مِنْ الْحَبِيسِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا إنَّمَا حُبِسَتْ عَلَى الْجِهَادِ، وَلَيْسَ هَذَا بِجِهَادٍ، إنَّمَا هُوَ نَفْعٌ لِأَهْلِ الْغَنِيمَةِ [فَصْلٌ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنِيمَةِ] (7629) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِرُكُوبِ دَابَّةٍ مِنْهَا وَلَا لُبْسِ ثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِهَا، لِمَا رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا، رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ، رَدَّهُ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلَيْدَةٌ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، فَقُلْت: مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ؟ فَقَالَ: لِلَّهِ خُمُسُهَا، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْجَيْشِ فَقُلْت: فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جَنْبِك أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَخِيك الْمُسْلِمِ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَأَهْلِ الْخُمْسِ، فَلَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ الِاخْتِصَاصُ بِمَنْفَعَتِهِ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْقِتَالِ بِسِلَاحِهِمْ، فَلَا بَأْسَ قَالَ أَحْمَدُ إذَا كَانَ أَنْكَى فِيهِمْ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَنَعَمْ وَذَكَرَ حَدِيثَ سَيْف أَبِي جَهْلٍ. وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: انْتَهَيْت إلَى أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ، فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْزَاك يَا أَبَا جَهْلٍ فَأَضْرِبُهُ بِسَيْفٍ مَعِي غَيْرِ طَائِلٍ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذْت سَيْفَهُ، فَضَرَبْته بِهِ حَتَّى بَرَدَ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَفِي رُكُوبِ الْفَرَسِ لِلْجِهَادِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ، كَمَا يَجُوزُ فِي السِّلَاحِ، وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلْعَطَبِ غَالِبًا، وَقِيمَتُهَا كَثِيرَةٌ، بِخِلَافِ السِّلَاحِ. [مَسْأَلَةٌ صِفَة الْأَمَان] (7630) مَسْأَلَةٌ، قَالَ: (وَمَنْ لَقِيَ عِلْجًا، فَقَالَ لَهُ: قِفْ، أَوْ: أَلْقِ سِلَاحَك فَقَدْ أَمَّنَهُ) . قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا صِفَةَ الْأَمَانِ، فَاَلَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لَفْظَتَانِ؛ أَجَرْتُك وَأَمَّنْتُك لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت، وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت» . وَقَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» . وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ إذَا قَالَ: لَا تَخَفْ، لَا تَذْهَلْ، لَا تَخْشَ، لَا خَوْفَ عَلَيْك، لَا بَأْسَ عَلَيْك وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قُلْتُمْ: لَا بَأْسَ، أَوْ لَا تَذْهَلْ، أَوْ مَتْرَسٌ فَقَدْ أَمَّنْتُمُوهُمْ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: لَا تَخَفْ فَقَدْ أَمَّنَهُ، وَإِذَا قَالَ: لَا تَذْهَلْ. فَقَدْ أَمَّنَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلْهُرْمُزَانِ: تَكَلَّمْ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْك. فَلَمَّا تَكَلَّمَ، أَمَرَ عُمَرُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَيْسَ لَك إلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، قَدْ أَمَّنْته فَقَالَ عُمَرُ كَلًّا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ قَدْ قُلْت لَهُ: تَكَلَّمْ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْك فَدَرَأَ عَنْهُ عُمَرُ الْقَتْلَ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا فَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ: قُمْ، أَوْ قِفْ، أَوْ أَلْقِ سِلَاحَك. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ أَمَانٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ هَذَا أَمَانًا، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: أَمَّنْتُك وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ ادَّعَى الْكَافِرُ أَنَّهُ آمِنٌ، أَوْ قَالَ: إنَّمَا وَقَفْت لِنِدَائِك فَهُوَ آمِنٌ، إنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ. . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَمَانٍ، لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يُشْعِرُ بِهِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِرْهَابِ وَالتَّخْوِيفِ، فَلَمْ يَكُنْ أَمَانًا، لِقَوْلِهِ: لَأَقْتُلَنَّك لَكِنْ يُرْجَعُ إلَى الْقَائِلِ، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْت بِهِ الْأَمَانَ. فَهُوَ أَمَانٌ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَرُدُّ أَمَانَهُ. نَظَرْنَا فِي الْكَافِرِ، فَإِنْ قَالَ: اعْتَقَدْته أَمَانًا رُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ، وَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ أَمَانًا فَلَيْسَ بِأَمَانٍ، كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَيْهِمْ بِمَا اعْتَقَدُوهُ أَمَانًا. [فَصْلٌ الْأَمَانُ بِالْإِشَارَةِ] (7631) فَصْلٌ: فَإِنْ أَشَارَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِمْ بِمَا يَرَوْنَهُ أَمَانًا وَقَالَ: أَرَدْت بِهِ الْأَمَانَ فَهُوَ أَمَانٌ وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ بِهِ الْأَمَانَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ فَإِنْ خَرَجَ الْكُفَّارُ مِنْ حِصْنِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْإِشَارَةِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ، وَلَكِنْ يَرُدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ إلَى السَّمَاءِ إلَى مُشْرِكٍ، فَنَزَلَ بِأَمَانِهِ، فَقَتَلَهُ، لَقَتَلْته بِهِ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَإِنْ مَاتَ الْمُسْلِمُ أَوْ غَابَ، فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ صَحَّحْتُمْ الْأَمَانَ بِالْإِشَارَةِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ؟ قُلْنَا: تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، كَمَا حُقِنَ دَمُ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْغَالِبِ لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَهُمْ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّكْلِيمِ بِالْإِشَارَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ [فَصْلٌ سُبِيَتْ كَافِرَةٌ وَجَاءَ ابْنه يَطْلُبهَا] (7632) فَصْلٌ: إذَا سُبِيَتْ كَافِرَةٌ، فَجَاءَ ابْنُهَا يَطْلُبُهَا، وَقَالَ: إنَّ عِنْدِي أَسِيرًا مُسْلِمًا فَأَطْلِقُوهَا حَتَّى أُحْضِرَهُ. فَقَالَ الْإِمَامُ: أَحْضِرْهُ فَأَحْضَرَهُ، لَزِمَ إطْلَاقُهَا لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا إجَابَتُهُ إلَى مَا سَأَلَ وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ: لَمْ أُرِدْ إجَابَتَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَرْكِ أَسِيرِهِ، وَرُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُطْلَقُ الْأَسِيرُ، وَلَا تُطْلَقُ الْمُشْرِكَةُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ حُرٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِمَمْلُوكَةٍ وَيُقَالُ لَهُ: إنْ اخْتَرْت شِرَاءَهَا، فَأْتِ بِثَمَنِهَا وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ الشَّرْطُ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ فَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَبَنَى عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَهِمَ الْأَمَانَ مِنْ الْإِشَارَةِ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْحُرَّ لَا يَكُونُ ثَمَنَ مَمْلُوكَةٍ. قُلْنَا: لَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يُفَادَى بِهَا، فَقَدْ فَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَسِيرَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَادَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَسِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ، وَوَفَّى لَهُمْ بِرَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، وَقَالَ: «إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» وَإِنْ كَانَ رَدُّ الْمُسْلِمِ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ إطْلَاقَهَا، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وَقَوْلِهِ: «إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ.» [مَسْأَلَةٌ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ] (7633) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، أَوْ لِوَلَدِهِ، أَوْ لِسَيِّدِهِ، لَمْ يُقْطَعْ) يَعْنِي إذَا كَانَ السَّارِقُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ، أَوْ أَبَاهُ، أَوْ سَيِّدَهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً وَهُوَ حَقُّهُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَطْعِهِ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا إنْ كَانَ لِابْنِهِ وَإِنْ عَلَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فِيهَا حَقٌّ لَمْ يُقْطَعْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِيهَا حَقٌّ فَسَرَقَ مِنْهَا الْآخِرُ، لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى أَنَّ أَحَدَهُمَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا [فَصْلٌ السَّارِقُ مِنْ الْغَنِيمَةِ غَيْرُ الْغَالِّ] (7634) فَصْلٌ: وَالسَّارِقُ مِنْ الْغَنِيمَةِ غَيْرُ الْغَالِّ، فَلَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي إحْرَاقِ رَحْلِهِ، وَلَا يَجْرِي الْغَالُّ مَجْرَى السَّارِقِ فِي قَطْعِ يَدِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ السَّارِقَ يُحْرَقُ رَحْلُهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَالِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَجَبَ أَنْ يُشْرَعَ فِي حَقِّهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى، كَسَارِقِ الثَّمَرِ يَغْرَمُ مِثْلَيْ مَا سَرَقَ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَالِّ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْغُلُولَ يَكْثُرُ، لِكَوْنِهِ أَخْذَ مَالٍ لَا حَافِظَ لَهُ، وَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ غَالِبًا فَيَحْتَاجُ إلَى زَاجِرٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّرِقَةُ، فَإِنَّهَا أَخْذُ مَالٍ مَحْفُوظٍ، فَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَقَلُّ. [مَسْأَلَةٌ وَطِئَ جَارِيَةً قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الْغَنِيمَة] (7635) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، أُدِّبَ، وَلَمْ يُبْلَغْ بِهِ حَدُّ الزَّانِي، وَأُخِذَ مِنْهُ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَطُرِحَ فِي الْمَقْسَمِ، إلَّا أَنْ تَلِدَ مِنْهُ، فَتَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا) . يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَاطِئُ مِنْ الْغَانِمِينَ، أَوْ مِمَّنْ لِوَلَدِهِ فِيهَا حَقٌّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُت لِلْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ لِلْوَاطِئِ حَقٌّ فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَيُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَهَذَا زَانٍ، وَلِأَنَّهُ وَطِئَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كُلُّ مَنْ سَلَفَ مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: عَلَيْهِ أَدْنَى الْحَدَّيْنِ، مِائَةُ جَلْدَةٍ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ: إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَخْبَارِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ قَالَ: أَسْقَطْت حَقِّي. سَقَطَ، وَلَوْ ثَبَتَ مِلْكُهُ، لَمْ يَزُلْ بِذَلِكَ، كَالْوَارِثِ. وَلَنَا، أَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةَ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ ابْنِهِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ هَذَا، وَمَنْعُ الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ، قَدْ زَالَ، وَلَا يَزُولُ، إلَّا إلَى مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ تَصِحُّ قِسْمَتُهُ، وَيَمْلِكُ الْغَانِمُونَ طَلَبَ قِسْمَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ مَالَ الْوَارِثِ، إنَّمَا كَثُرَ الْغَانِمُونَ فَقَلَّ نَصِيبُ الْوَاطِئِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ تَعْيِينُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ. وَضَعْفُ الْمِلْكِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ شُبْهَةً فِي الْحَدِّ الَّذِي يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَهُوَ شُبْهَةٌ، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدُّ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَيُطْرَحُ فِي الْمَقْسَمِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الْمَهْرِ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَقِيَّتُهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّنَا إذَا أَسْقَطْنَا عَنْهُ حِصَّتَهُ، وَأَخَذْنَا الْبَاقِيَ فَطَرَحْنَاهُ فِي الْمَغْنَمِ، ثُمَّ قَسَمْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ وَهُوَ فِيهِمْ، عَادَ إلَيْهِ سَهْمٌ مِنْ حِصَّةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ قَدْرَ حِصَّتِهِ قَدْ لَا تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، لِقِلَّةِ الْمَهْرِ وَكَثْرَةِ الْغَانِمِينَ، ثُمَّ إذَا أَخَذْنَاهُ، فَإِنْ قَسَمْنَاهُ مُفْرَدًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ، لَمْ يُمْكِنْ، وَإِنْ خَلَطْنَاهُ بِبَقِيَّةِ الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ قَسَمْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ، أَخَذَ سَهْمًا مِمَّا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ رَقِيقٌ، لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ إنَّمَا يَمْلِكُونَ بِالْقِسْمَةِ، فَقَدْ صَادَفَ وَطْؤُهُ غَيْرَ مِلْكِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَيَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَيُفَارِقُ الزِّنَى، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأَمَةَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ. فَإِذَا مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؟ فِيهَا قَوْلَانِ، وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِجَارِيَةِ الِابْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْغَنِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا تُطْرَحَ فِي الْمَغْنَمِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ الْغَنِيمَةِ بِفِعْلِهِ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ قَتَلَهَا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ قِيمَتُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ مُعْسِرًا حُسِبَ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَبَاقِيهَا رَقِيقٌ لِلْغَانِمِينَ، لِأَنَّ كَوْنَهَا أُمَّ وَلَدٍ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالسِّرَايَةِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَسْرِ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ، كَالْإِعْتَاقِ، وَلَنَا، أَنَّهُ اسْتِيلَادٌ جَعَلَ بَعْضَهَا أُمَّ وَلَدٍ، فَيَجْعَلُ جَمِيعَهَا أُمَّ وَلَدٍ، كَاسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ، وَفَارَقَ الْعِتْقَ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ أَقْوَى، لِكَوْنِهِ فِعْلًا، وَيَنْفُذُ مِنْ الْمَجْنُونِ. فَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ حِينَ وَضْعِهِ، تُطْرَحُ فِي الْمَغْنَمِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ، وَالثَّانِيَةُ، لَا تَلْزَمُهُ،، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا حِينَ عَلِقَتْ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْغَانِمِينَ فِي الْوَلَدِ بِحَالٍ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْأَبِ مِنْ جَارِيَةِ ابْنِهِ إذَا وَطِئَهَا، وَلِأَنَّهُ يَعْتِقُ حِينَ عُلُوقِهِ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا صَارَ نِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ، يَكُونُ الْوَلَدُ كُلُّهُ حُرًّا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِهِ. [فَصْلٌ كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى بَعْضِ الْغَانِمِينَ] (7636) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى بَعْضِ الْغَانِمِينَ، نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّ عَلِيٍّ، وَعَقِيلًا أَخَا عَلِيٍّ كَانَا فِي أَسْرَى بَدْرٍ، فَلَمْ يَعْتِقَا عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ وَإِنْ اُسْتُرِقَّ، أَوْ كَانَ الْأَسِيرُ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ نَصِيبِهِ وَسَرَى إلَى بَاقِيه إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ إلَّا مِلْكُهُ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ، وَلَوْ مَلَكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُ فِيهِ، وَإِنْ قَسَمَهُ، وَجَعَلَهُ فِي نَصِيبِهِ وَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ جُعِلَ لَهُ بَعْضُهُ، فَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ وَقُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي. وَلَنَا، مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ لِكَوْنِ الِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَدْ زَالَ، وَلَا يَزُولُ إلَّا إلَى الْمُسْلِمِينَ. [فَصْلٌ أَعْتَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ] (7637) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الرِّقُّ، كَالرَّجُلِ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ لَمْ يَعْتِقْ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ حِصَّتِهِ، وَسَرَى إلَى بَاقِيه إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيه تُطْرَحُ فِي الْمَقْسَمِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ مِلْكِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، لِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، عَتَقَ وَلَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَقِّهِ، أَخَذَ بَاقِيَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، لَمْ يَعْتِقْ إلَّا قَدْرُ حَقِّهِ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثَانِيًا، وَفَضَلَ مِنْ حَقِّهِ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، عَتَقَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْ الثَّانِي شَيْءٌ. [فَصْلٌ نَقْلُ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَالتَّمْثِيل بِقَتْلَاهُمْ] (7638) فَصْلٌ: يُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، بِرَأْسِ الْبِطْرِيقِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا. قَالَ: فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ، لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يُحْمَلْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسٌ قَطُّ، وَحُمِلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَأْسٌ فَأَنْكَرَ، وَأَوَّلُ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ الرُّءُوسُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيُكْرَهُ رَمْيُهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ جَازَ، لِمَا رَوَيْنَا، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ حَاصَرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة، ظُفِرَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوا رَأْسَهُ، فَجَاءَ قَوْمُهُ عَمْرًا مُغْضَبِينَ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو خُذُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فَاقْطَعُوا رَأْسَهُ، فَارْمُوا بِهِ إلَيْهِمْ فِي الْمَنْجَنِيقِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَرَمَى أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة رَأْسَ الْمُسْلِمِ إلَى قَوْمِهِ. [فَصْلٌ هَدِيَّةُ الْكُفَّارِ] فَصْلٌ: يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ،» فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَزْوِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَا أَهْدَاهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، أَوْ لِبَعْضِ قُوَّادِهِ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِخَوْفِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّ مَا أُهْدِيَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ فَهُوَ لَهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ غَنِيمَةٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ لِمَنْ أُهْدِيَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ الْهَدِيَّةَ» فَكَانَتْ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِلْمُهْدَى لَهُ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ خُصَّ بِهَا، أَشْبَهَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَلَنَا، أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ بِظَهْرِ الْجَيْشِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ قَهْرًا، وَلِأَنَّهُ إذَا أُهْدِيَ لِلْإِمَامِ أَوْ الْأَمِيرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُدَارِي عَنْ نَفْسِهِ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا أُخِذَ مِنْهُ قَهْرًا. وَأَمَّا إنْ أُهْدِيَ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، لِعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُ، فَيَكُونُ لَهُ، كَمَا لَوْ أَهْدَى إلَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ، ذَلِكَ، فَلَهُ مَا أَهْدَى إلَيْهِ، وَإِنْ تَجَدَّدَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ إلَى دَارِهِمْ، فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِنَا فِي الْهَدِيَّةِ إلَى الْقَاضِي.